الوزير والتصوير.. كاريكاتير عمر دفع الله

كامل إدريس في نيويورك بلا إنجاز
منذ أن قدّم نفسه كرئيس وزراء الحكومة المدنية لبورتسودان، حاول كامل إدريس أن يصوّر نفسه كقائد بديل قادر على إخراج السودان من مأزقه المستمر. استند في ذلك إلى خبرته الدولية وسمعته الدبلوماسية التي بناها عبر سنوات طويلة داخل الأمم المتحدة، لكن الواقع كشف ما كان يخفيه التاريخ؛ كل ملف أدارَه، كل مشروع أعلن عنه، وكل خطاب ألقاه، انتهى إلى فشل واضح أو نتائج أقل من المتوقعة.
زيارة نيويورك لم تكن استثناءً، بل امتدادًا لمسلسل طويل من محاولات باءت كلها بالعجز، عجز في التأثير، عجز في بناء الثقة، وعجز في ترجمة الوعود إلى إنجازات ملموسة.
حين وصل إدريس إلى نيويورك، بدا واضحًا أن زيارته خالية من الثقل السياسي. الاجتماعات الرسمية اقتصرت على لقاءات بروتوكولية مع موظفين ثانويين، ولم تُسجَّل أي لقاءات ثنائية مع قادة الدول الكبرى.
كانت الصور المعدّة مسبقًا، البيانات الصحفية العامة، والخطاب الإعلامي البراق كل ما يملأ جدول أعماله. الصحافة الغربية والعربية بالكاد لاحظت الزيارة، فيما تركز اهتمامها على أزمات أكثر حدة عالمياً، مثل أوكرانيا وغزة، ما جعل حضور إدريس غير ذي أثر فعلي.
يوم إلقاء خطابه أمام الجمعية العامة، بدا كل شيء مصفوفًا بعناية، كلمات عن السلام والعدالة والتنمية، لكن بدون أي خطة عملية أو أرقام دقيقة، أو مقترحات ملموسة لإنقاذ المدنيين أو وقف الحرب.
الملفت في الامر والعجيب، انّ خطاب إدريس على منصة المنظمة الدولية، لم يخاطب الدبلوماسيين الدوليين، بل كان موجّهًا للجمهور الداخلي في بورتسودان، وكأن الأمم المتحدة منصة لترويج صورة زائفة للسلام، لا أرضية لإيجاد حلول. والصمت الذي استقبله، وانفضاض الحاضرين بعد كلماته، لم يكن مجرد علامة على الإحراج بل شهادة على فشل استراتيجي متوقّع.
يمكن تلخيص أسباب فشل زيارته في أربعة محاور؛ أولاً، تجاهل الكارثة الإنسانية المستمرة، إذ لم يتطرق إلى أكثر من 14 مليون نازح أو الانتهاكات الموثقة ضد المدنيين في دارفور وكردفان والخرطوم. ثانياً، التناقض الصارخ بين شعاراته وممارسته الحكومية، فبينما يرفع شعار السلام، تستمر الحرب وتعطّل المساعدات الإنسانية. ثالثاً، غياب أي رؤية للتعاون الإقليمي والدولي، وعدم تقديم مقترحات للتخفيف من الأزمة. رابعاً، انفصال الخطاب عن لغة المصالح الحقيقية؛ في الأمم المتحدة، لا تنفع الشعارات وحدها، المطلوب تقديم ضمانات ملموسة واستراتيجيات قابلة للتنفيذ، وهذا ما غاب تمامًا.
كذلك كان الصدى الدولي للزيارة ضعيفًا، والحقائق أظهرت عزلة دبلوماسية متزايدة. لم تصدر أي تصريحات داعمة من القوى الكبرى، بينما اقتصرت التغطية الإعلامية على مقتطفات بروتوكولية، حتى الصحف العربية الكبرى لم تمنحها أي اهتمام يذكر.
اما داخل السودان فلقد تباينت الردود؛ حيث رأى المعارضون في الخطاب فضيحة سياسية وسخروا من فراغه، فيما حاول الموالون تضخيم الحدث إعلامياً، لكن كل محاولاتهم لم تستطع إخفاء الحقيقة على أرض الواقع.
فالزيارة لم تظهر كامل إدريس كقائد دولة قادر على التغيير كما اراد هو وفريقه الاعلامي المرافق، بل كموظف بروتوكولي يحاول إعادة تدوير صورته القديمة. فشل الخطاب، فشل الحضور، وفشل إقناع الداخل والخارج، كلها مؤشرات صريحة على أزمة قيادة حقيقية.
هذا الفشل يتكشف بشكل أوضح في ظل خارطة الطريق التي طرحتها الولايات المتحدة، مصر، السعودية، والإمارات، والتي تضمنت هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، وعملية انتقالية مدتها تسعة أشهر نحو حكومة مدنية مستقلة، مع رفض أي دور لجماعات متطرفة مثل الإخوان المسلمين. حيث اكّد البيان الأخير لهذه الرباعية أن الحل العسكري مستحيل، وأن استمرار الصراع يزيد الكارثة الإنسانية ويهدد الاستقرار الإقليمي.
المرحلة المقبلة حاسمة؛ حيث ينبغى على الحكومة الالتزام بالهدنة، ووقف إطلاق النار فورًا، والإسراع في خطوات الانتقال المدني. أي تأخير سيضاعف العزلة الدولية، ويزيد الضغط الداخلي والخارجي، ويجعل كل خطوة مستقبلية اختبارًا جديدًا لفشل الحكومة في تحويل الخطابات إلى واقع ملموس.
محاولات بورتسودان فرض سردية إعلامية لتصوير زيارة نيويورك على أنها إنجاز أمر مثير للشفقة، ولن يفلح في إحداث أي اختراق مع الرباعية أو المجتمعين الإقليمي والدولي.
زيارات إدريس المقبلة، وخطاباته، وصوره الإعلامية، ستكون مرآة لقدرة الحكومة على إثبات جدية سياسية، أو سجلًا مستمرًا للعجز والفشل السياسي والدبلوماسي في السودان.
إن النظر إلى هذا الفشل يترك في النفس شعورًا بالمرارة والحسرة، ليس فقط على صعيد الأداء الدبلوماسي، بل على كل ما يمثله من تضييع للفرص، وترك السودان يغرق في أزماته دون خطة واضحة أو قيادة قادرة على مواجهة الواقع بعقل واعٍ وشجاعة حقيقية.
كل خطاب فارغ، وكل بروتوكول بدون مضمون، هو جرح جديد في قلب وطن يتجرّع النزاع يوميًا، وترتجف فيه أرواح بريئة كل صباح على وقع قذائف الحرب، وكل طفل محروم من مستقبل، وكل أسرة نازحة تبحث عن مأوى، وكل امرأة فقدت أمانها.
الفشل هنا ليس مجرد إخفاق دبلوماسي؛ إنه صورة صارخة للزمن الذي يضيع، للفرص التاريخية التي تتبدد، وللعجز السياسي الذي يضاعف معاناة الشعب. زيارة نيويورك كانت فرصة لإعادة بناء الثقة الدولية، لتقديم خطوات عملية نحو السلام، لتأكيد قدرة الحكومة على قيادة الدولة نحو الاستقرار، لكنها تحوّلت إلى نسخة مكررة من الشعارات المكرّرة، وإعلان صريح عن الفجوة بين الطموحات الإعلامية والواقع المؤلم.
إنه ليس مجرد فشل شخصي أو حكومة، بل هو فشل الدولة كلها في حماية شعبها، وفي تحويل أي فرصة تاريخية إلى خطوة فعلية تعيد الأمل لأهله. والمأساة الأكبر أن كل يوم من الحرب يمتص روحًا جديدة، ويُرهق إرادة الإنسان، ويترك جرحًا في مستقبل السودان، دون أن يحرك ضمير أي قائد حقيقي.
في هذا المشهد، كل خطاب بلا فعل، وكل زيارة بلا نتيجة، يصبح حلقة إضافية في سلسلة الألم المستمرة، بينما الفرص التاريخية تتساقط بين أصابع القيادة، تاركة وراءها جراحًا لا تشفى ووجوهًا فقدت الأمل في مستقبلٍ لم يولد بعد.
علاء محمد عبدالرحيم.



