مقالات وآراء

الحقيقة أو الفناء.. الأستاذ شريف محمد عثمان

علاء خيراوي

في تاريخ الأمم لحظات تتصدع فيها الجدران وتسيل فيها الدماء، فتبدو الأوطان وكأنها على حافة الفناء. وفي مثل هذه اللحظات لا تُبنى الشرعية على فوهات البنادق ولا على صخب الجيوش، بل على الكلمة الصادقة التي تنبثق من أعماق الضمير الجمعي. هكذا كان الأمر في فرنسا الثائرة حين ارتفع صوت روسو قبل أن يهتز العرش، وهكذا كان في جنوب إفريقيا حين دوّى صوت مانديلا في قلب السجن ليرسم ملامح الحرية، وهكذا كان في أمريكا اللاتينية حين وقف جيفارا ليحوّل أنفاسه إلى أيقونة مقاومة.

عبر التاريخ، تبرز الأصوات الحقيقية في لحظات الدم والانقسام، لتعلن أن الحقيقة وحدها أقوى من الرصاص، وأن الموقف الأخلاقي هو ما يحفظ للأوطان حقها في الحياة.

واليوم، في السودان المثخن بالجراح، يطلُّ صوت الأستاذ  شريف محمد عثمان الأمين السياسي لحزب المؤتمر السوداني  والقياديّْ في تحالف صمود، في اللحظة ذاتها التي ظنّ فيها الكثيرون أن الخراب قد غطّى على كل أمل، ليعيدنا إلى تلك الحقيقة البسيطة أن الضمير الوطني لا يموت، وأن كلمة الحق حين تُقال وسط الرصاص تساوي وطناً كاملاً، لتمثل مواقفه امتداداً لذلك الناموس التاريخي الذي يجعل الكلمة الحقيقية أبلغ من المدفع، والموقف الصادق أبقى من سلطة عابرة.

في لحظة تاريخية يتقاطع فيها الدم مع الخيانة، ويتداخل فيها الرماد مع صرخات الأبرياء، يبرز صوت شريف كأنه صفعة في وجه كل من أراد تزوير الوعي.

لا يتلعثم الرجل أمام مناظريه، بل يُعبّر عن أفكارِه بوضوحٍ لا يعرف المواربة؛ الحرب التي تأكل السودان اليوم ليست بطولة ولا معركة شرف، بل جريمة مكتملة الأركان، تورط فيها الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة والإسلاميون على حد سواء. لم يترك مساحة لتقديس طرف أو تبرئة آخر، بل وضع الجميع أمام مرآة الحقيقة كلهم غمسوا أيديهم في الدم، وكلهم باعوا السودان في أسواق المصالح.

لقد أدرك شريف أن أخطر ما يواجه السودان ليس فقط رصاص البنادق ولا قذائف المدافع، بل الأكاذيب التي تُسوَّق للناس على أنها حقائق. فالجيش يحاول أن يحتكر الوطنية ويستظل بعباءة “حامي الحمى” بينما تاريخه الحديث ملوث بالانقلابات والجرائم ضد الشعب. والدعم السريع يتزيّا بلباس “البديل الثوري” بينما سجله مثقل بالانتهاكات والاغتصاب والنهب. والحركات المسلحة التي ولدت من رحم المظالم العادلة تحولت إلى مجموعات مرتزقة تُرسل شباب السودان للقتال في اليمن وليبيا مقابل أثمان بخسة.

لكن أخطر من كل هؤلاء كانت الحركة الإسلامية، التي واجهها شريف بصلابة وإلتزام، لأنها لم تكن طرفاً عابراً في المعادلة، بل كانت الأصل الذي انبثقت منه كل الفوضى، والمنبع الذي غذّى كل دماء.

وعندما تأمل شريف تاريخ الحركة الإسلامية في السودان منذ ثمانينيات القرن الماضي أدرك بحسّه التاريخي والسياسي أن مشروعها لم يكن يوماً وطنياً، بل كان مشروعاً عابراً للحدود، يرى السودان مجرد قاعدة انطلاق لصراعات أيديولوجية تتجاوز الجغرافيا والتاريخ.

فقد أرسلت أبناء السودان إلى أفغانستان تحت شعار الجهاد العالمي، وتورطت في صفقات مع القذافي في ليبيا، وخططت لمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا، وهي المحاولة التي جرّت على السودان عزلة دولية خانقة وعقوبات اقتصادية وسياسية شلّت مؤسسات الدولة وأفقرت الشعب.

ولم تتوقف عند ذلك، بل أدخلت السودان في حرب اليمن، حيث جُند الآلاف من الشباب السودانيين ليكونوا وقوداً لمحرقة لا تعني وطنهم، قُتل فيها المئات، وتحوّلت عائداتها إلى خزائن قادة الإسلاميين. ومنذ ٢٠١١ لعبت دوراً قذراً في تحويل السودان إلى ممر للمرتزقة والسلاح نحو ليبيا، في أبشع صور المتاجرة بالدماء.

ّْوحين ينظر إلى الداخل، ادرك أن سجل الإسلاميين أكثر بشاعة؛ حرب الجنوب التي استمرت عقدين أزهقت أرواح أكثر من مليوني إنسان وشردت أربعة ملايين، وانتهت بتمزيق البلاد وانفصال الجنوب وفقدان أكثر من سبعين في المائة من موارد النفط.

ثم جاءت حرب دارفور التي التهمت أكثر من ثلاثمائة ألف قتيل وتسببت في نزوح الملايين، لتكشف أن المشروع الإسلامي لم يكن سوى ماكينة جهنمية تنتج الموت والدمار باسم الدين وباسم الدولة. إن هذه الأرقام ليست إحصاءات باردة، بل شواهد دامغة على أن الحركة الإسلامية حوّلت السودان إلى جرح مفتوح، وفرضت عليه أن يدفع فاتورة دم لا تنتهي.

وفي فقه شريف السياسيّْ والقانونيّْ لم يكن الجيش بريئاً في كل هذا. فمنذ أن أصبح ذراعاً في يد الإسلاميين، تحوّل إلى أداة للقمع الداخلي وإلى مرتزق خارجي. فلقد تلطخت يداه بدماء المتظاهرين في شوارع الخرطوم، وبدماء الأبرياء في دارفور وكردفان والنيل الأزرق.

وكذلك لم يتورع عن حماية مشروع الإسلاميين ثلاثين عاماً، ولم يجد حرجاً في أن يقف شريكاً كاملاً في جريمة حرب اليمن. وعندما اندلعت الحرب الأخيرة في ٢٠٢٣، لم يكن سوى طرف آخر في معركة سلطة، يقاتل لا من أجل الوطن، بل من أجل بقاء جنرالاته في قمة الهرم.

أما الدعم السريع، فحدّث ولا حرج. هذا الكيان الذي صُنع في مطابخ النظام البائد كأداة للقتل في دارفور تحوّل في نظره اليوم إلى وحش منفلت، ينهب ويغتصب ويهدم المدن على رؤوس ساكنيها. وحين يحاول أن يقدم نفسه بديلاً وطنياً، يكفي أن ننظر إلى جرائمه في الخرطوم والجزيرة ودارفور لنفهم أنه ليس سوى الوجه الآخر لنفس العملة. والحركات المسلحة بدورها لم تعد تمثل مظالم الهامش، بل تحولت إلى شركات مقاولات سياسية وعسكرية، تعمل عند من يدفع أكثر، وتبيع دماء أبنائها في سوق التحالفات الإقليمية.

تأتي خطابات وكلمات شريف محمد عثمان دوما لتعيد ترتيب المشهد على نحو صادم. قال بوضوح إن هذه الحرب ليست معركة شرف، ولا معركة تحرير، بل جريمة جماعية ارتكبها الجميع. لا أحد في هذه الحرب يمكنه أن يدعي الطهرانية أو الوطنية؛ فالدم واحد والعار واحد. لكن الأهم أن شريف لم يكتفِ بالتشخيص، بل دعا إلى الحل، إلى الطريق الوحيد القادر على إنقاذ السودان، مصالحة وطنية شاملة يتواضع فيها الجميع، ويتنازلون عن أوهام السلطة لصالح الوطن والشعب. لقد قالها بعبارة صادقة وبسيطة “نحن دايرين السودانيين يعيشوا في سلام وينهوا المشاكل التاريخية”. إنها ليست مجرد عبارة، بل مشروع وطني حقيقي، يدعو إلى أن يُبنى السودان على أسس جديدة، بعد أن أثبتت التجارب أن السلاح لا يبني وطناً، وأن الدم لا يصنع دولة.

إنّ ما قاله الأستاذ  شريف ليس مجرد كلمات في سياق مناظرة، بل هو بيان وطني يجلجل في وجه الخونة والقتلة. لقد واجه الإسلاميين في عقر دارهم، وفضح تاريخهم الدموي الممتد من الجنوب إلى دارفور، ومن محاولة اغتيال مبارك إلى حرب اليمن وليبيا. قالها بصوت لا يعرف التردد؛ هذه الحرب عار، وهذه الدماء دين في أعناقكم جميعاً. لم يجامل الجيش ولا الدعم السريع ولا الحركات المسلحة، بل جرّدهم من كل أوهام البطولة، ووضعهم أمام حقيقتهم تجار دم، وعرّابون للفوضى.

وها نحن اليوم، وسط الخراب والرماد، نسمع صوتاً قويّاً وصادقاً يعلو فوق ضجيج الرصاص، صوت ضميرٍ سودانيٍ نقي يصرخ أن لا خلاص إلا بالسلام، ولا مستقبل إلا بالتحرر من وصاية الإسلاميين وأمراء الحرب.

إنّ التاريخ لن يذكر أسماء الجنرالات ولا شعارات الإسلاميين، بل سيتذكر من قال الحق حين كان الصمت هو القاعدة. السودان اليوم أمام مفترق طرق فإما الحقيقة أو الفناء، ولا خيار ثالث.

وهكذا يثبت الدرس الأبدي أن الأوطان لا تنجو بالقوة العمياء، بل بالموقف الصادق. وأن الدماء مهما سالت لا تملك أن تصنع دولة، لكن كلمة حق واحدة قد تغيّر مجرى التاريخ. في نهاية المطاف، تذبل البنادق ويخفت صخب المدافع، ولا يبقى في ذاكرة الشعوب إلا الأصوات التي قالت الحقيقة في وجه الخراب. تلك هي الكلمة التي تعادل وطناً، وتلك هي الحقيقة التي تصنع الخلود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..