كادت تندثر بفعل بعض المارقين على العادات ..لوحة سودانية خالصة تتحرك على طريق الرياض ــ جدة بهرت الملايين في بلاد الحرمين الشريفين

الرياض: فتح الرحمن محمد يوسف:

إذا ما ارتحلت في فجاج الأرض وتعرّفت على شعوب الدنيا عن قرب في ما وراء البحار والمحيطات بعيداً عن نيل الخلود رابط الإلفة بين إنسان السودان العظيم على امتداد ربوعه المترع بالطيبة والأصالة والمروءة والقيم النبيلة.. وشهدت كم من قيمة نصبت ومعان رفعت.. لوجدت السودان وطن الجمال والإنسان في كل ومكان وزمان .. ينفخ الروح في منابعها وجوانبها بنكهة التميّز ومعنى التفرُّد من خلال شخصيات مدن من المعرفة الإنسانية والحضارية التي لا تجدها إلاّ في أصحاب البشرة السمراء.
أقول ذلك وفي ذهني مازالت تتحرك لوحة سودانية خالصة على الطريق الرابط بين جدة والرياض، وبالتحديد في منطقة تدعى «المويّة».. تلهمني عظمة هذا الشعب الأبي الذي مازال يحتفظ ببريقه ونبله وأخلاقه وقيمه السمحاء في بلاد الحرمين الشريفين، وأحسبها كذلك في جميع بلاد المهجر التي بالتأكيد تتشرف بأن تستلهم منها معنى الحضارة الإنسانية الأخلاقية البحتة.
هذه اللوحة واحدة من ملايين اللوحات السودانية، ولكن ستظل عالقة بذهني وأكثرها لصوقا به، بسبب أن المناسبة كانت تهمني برغم أنها أشبعتني حزنا عميقا تضيق عنه الأرض، إذ كانت منطقة «المويّة» هذه قد أفقدتني وأفقدت أهالي قرى الوفاق وقرى الشرق السوداني الأدنى عزيزاً علينا جميعاً، ألا وهو قريبي الأخ هاشم إبراهيم الجاك ابن منطقة القصيرة بالجزيرة في حادث حركة مؤلم، لم يدع له فرصة تنفس لرؤية هذا المشهد ولو لبضعة دقائق.
وما أن انتشر الخبر ووصل الأحباب والأقارب في مدن المملكة، حتى هبّ الجميع لمكان الحادث، برغم بعد المسافات وظروف العمل وارتباطاته والتزاماته، لتفقّد «ولدنا» بمنطقة «المويّة» حيث كان عزيزنا الراحل قد لفظ آخر أنفاسه في الحال.
ولكن كل هذا الجمع الغفير من أهل الفقيد والذي هرع مسرعا لمكان الحادث لم يجد فرصة بأن يقوم بأي شكل من أشكال الواجب في هذه الحالة، لأنه ببساطة أن السودانيين القانطين في تلك المنطقة ما أن عرفوا أن الحادث أودى بحياة سوداني، حتى تركوا ما بأيديهم من أعمال وأشغال وهبوّا لنجدته ظنّا منهم أنه بإمكانهم إسعافه ومن ثم إنقاذه من الموت، ولكن كان الموت أسرع من مروءتهم، فما كان منهم إلاّ أن قاموا بالواجب نحو الميّت وكأنه من فلذات أكبادهم.
ووسط هذه المشهد المحزن، لم يجد أقارب الميت بداً من أن يقفوا متفرجين أمام إصرار هؤلاء الفئة السودانية الأصيلة وهم يقومون بواجب ستر الميت، بدءا من حفر القبر إلى ستره ودفنه من جهة، وسقاية أقارب الميت ومحاولة توفير راحة لهم في استراحة أعدوها لذلك من جهة أخرى.
وبنهاية هذا المشهد ظنّ أقارب الميت أنه بعد ذلك يتسنى لهم العودة إلى مدنهم ومناطقهم البعيدة، شاكرين لهذه الفئة هذا العمل السوداني البحت، غير أنهم وجدوا اعتراضا شديدا من سودانيي تلك المنطقة، فأثنوهم عن الرحيل والسفر حتى يكرموهم ويطعموهم، فذبحوا لهم عدد من الخراف ووفروا لهم الوجبات ومياه الشرب مع الشاي والقهوة بحماس لم ير له مثيل من قبل.
وكان بعد هذه اللوحة السودانية الخالصة، لا بد لأقارب الميت الذين حارهم المشهد أن يسألوهم: من أين أنتم في السودان، وكانت الغرابة في إجابتهم: نحن من كل السودان.. إذ أتضح أن بعضهم من دارفور وبعضهم من الشمالية وبعضهم من الجزيرة وبعضهم من الخرطوم ومدني وكل السودان .. تماما كما قالوا، فهم سودانيون وكفى!!
وعندما أذن الرحيل، فإذا بأهل الميت وجدوا صعوبة بالغة في وداعهم تماماً كما هو الحال لدى سودانيي منطقة «المويّة» الذين لم يجدوا غير الدموع وحرقة الفراق عزاءً وكأنهم أبناء بيت واحد وأب واحد وأمّ واحدة فرّق بينهم الزمن فجمعهم في لحظة وفرّقهم، ودعوهم على حالة ينتظروا فيها لحظة جمع الشمل كتلك التي جمعت سيدنا يوسف عليه السلام بإخوته في مصر المؤمنة بأهل الله.
وأمام هذا المشهد تجدني عاجزاً عن رسم هذه اللوحة السودانية كما رسمها هؤلاء الفتية، لعدم تمكنني من تصوير المشهد كاملا، فقد كانت كل الكلمات قاصرة عن وصفها، ولكن عزائي فيها أنها أعادت إلينا لوحة من أغلى اللوحات الإنسانية على وجه البسيطة التي كاد الزمن يدثرها ويرمي بها في «زبالة» التاريخ بفعل ممارسات وسلوكيات دخيلة علينا قد ارتكبها بعض المارقين على العادات والتقاليد السودانية، ولكنني أقول إن أمتنا السودانية بخير، لأن أمة هذا دأبها لن يصيبها الضيم بمشيئة الله، وإنهم على موعد مع السكون والطمأنينة والأمان والأمن و?لعيش الرغد قريباً. وتقبل الله الفقيد وألهم آله وذويه الصبر وحسن العزاء.. «إنا لله وإنا إليه راجعون».

الصحافة

تعليق واحد

  1. ده اسمو شوبير , اعرف احدهم توفي وكانت المسافه بين محله ومكان اهله بحساب الزمن ساعه وحين حضر الاهل وجدوا ابنهم دفن

  2. – أخي فتح الرحمن لك التحية ونسال الله للفقيد الرحمة وأن يسكنه الله فسيح جناته.

    – ان السودانيين في الغربة ما زالوا بخير ، وأمس شاب سوداني شجاع أنقذ حياة

    اربعة اطفال سقطوا في بئر وقد نقلت صحيفة سبق الالكترونية هذا الخبر وقد كانت

    تعليقات السعوديين كلها تشيد بمروءة وشجاعة السودانيين، كما نقلته الراكوبة أيضاً ،

    – قبل فترة من الزمان ونحن خارجين من أحد المساجد في مدينة جدة، تجمع الناس

    في باحة المسجد حول شخص أسمر (أثيوبي) قد فقد الوعي وبعضهم اتصل على

    الاسعاف وبينما الحاضرين (من جميع الجنسيات) وقوف حول الرجل، تساءل أحدهم يا

    اخوانا الزول سوداني، وكانت الاجابة حاضرة رد أحد معارفي بغضب كان سوداني

    نحن ما بنتركه هكذا الى ان يأتي الاسعاف فوق كتوفنا بنسعفه، فكانت التعليقات

    الجانبية والله السودانيين زينين – رجال…الخ.

  3. اخي فتح الرحمن لك التحية … والله لم استطع ان اتمالك نفسي وانا في بلاد المهجر يا سلام السودان يا هو دا السودان … اخو الاخوان ياهو دا السودان ……… دعوة لكل السودانيين خاصة في المهجر التمسك بوحدتهم وهويتهم وهي النجدة والوقوف مع كل ذي حاجة خاصة من ابناء جلدتنا وما احوجنا بالداخل لمثل هذه الوقفات … وكتابا امثالك با فتح الرحمن اكيد حا يحيوا فيبنا هذه الروح التي افتقدناها كثيرا … حياك الله وزادك حرصا على وحدة الصف السوداني بعيدا عن القبلية والجهوية الضيقة االبغيضة.

  4. نعم أخي أخلاق السودانيين كانت مثل هذا عند الجميع ولكن بدأ تغير فيها لأسباب كثيرة لكن أسأل الله أن يحفظ علينا قيمنا وأخلاقنا وينزع عنا الطغاة المتسلطين علينا الذين كادوا أن يجعلوا هذه الأخلاق من التاريخ وللفيد الرجمة والمغفرة ولأهله حسن العزاء

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..