مقالات وآراء

حين كان الحلم يرتدي زيّ المدرب الوطني: سيرة عبد القيوم حسن طه

م. معاوية ماجد

صوت عطبرة الذي لم يخفت في ذاكرة السودان

حين يولد الضوء في مدينة القطار

في مدينةٍ يمرُّ فيها الحديد كما تمرُّ الشرايين في الجسد — عطبرة، مدينة النهر والسكك والأصوات — وُلد عام 1939 فتىً اسمه عبد القيوم حسن طه، في حي الداخلة، بين نبض نهر النيل وصفير القطارات التي تعلّم الأطفال معنى الانضباط والحلم البعيد.
كان ابنًا لرجلٍ من البديرية الدهمشية، وامرأةٍ رباطابيةٍ كريمة، حملت في عينيها ضوء الصبر النيليّ، فأنجبته قلبًا مفتوحًا على الناس والحياة والرياضة.
هناك، حيث تختلط رائحة الزيت برائحة الطفولة، بدأ حلمه — لا في إدارة عجلات القطار، بل في إدارة العشب الأخضر حيث يولد الفرح.

من عطبرة إلى العالم… رجلٌ علّم الحلم أن يتنفس

منذ شبابه، كانت كرة القدم بالنسبة له لغة حبٍّ وعلمٍ وانتماء.
لم يرَها لعبةً فقط، بل وسيلة لبناء الإنسان، فغادر السودان إلى دولٍ بعيدة — ألمانيا، موريشيوس، وغيرها — يبحث عن أسرار التدريب الحديث كما يبحث الشاعر عن القصيدة الكاملة.
كان من أوائل السودانيين الذين فتحوا أبواب الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، يحمل كتبه ودفاتره ويدوّن الملاحظات بلهفة العارف بأن الوطن ينتظره.
عاد إلى السودان محمّلًا بالشهادات العليا، بروحٍ مليئة بالمسؤولية، وبحلمٍ أن يرى لاعبي عطبرة والسودان يسيرون بخطى الاحتراف نحو العالم.

في العام 1954م، حين بدأ الاتحاد السوداني لكرة القدم مرحلة التدريب العلمي، كان هو أحد ركائزها.
لم يكن مجرد مدرب، بل معلّم المدربين، ممن صاغوا المقررات الأولى لعلم التدريب في السودان.
كان يُدرّس بعين العارف، وبقلبٍ يفيض بحب اللعبة والناس.
لم يطلب جاهًا ولا شهرة، بل اكتفى أن يرى لاعبًا من عطبرة يبتسم بعد تمريرةٍ صحيحة.

ولم يكن إخلاصه للوطن أقل من إخلاصه لمدينته عطبرة.
فقد درّب فرقها المحلية الكبرى، ومنها الوادى عطبرة وفريق الشاطئ، وكان له الفضل في الوصول بفريق الشاطئ إلى نهائي بطولة كأس السودان للمرة الأولى والأخيرة في تاريخه — إنجازٌ ظلّ محفورًا في ذاكرة المدينة التي أحبها وأحبّته.
كان يؤمن بأن عطبرة ليست مجرد محطة في حياته، بل هي الأصل والمعنى، وأن الوفاء لها جزء من الوفاء للنيل الذي يسكنها.

الأسرة… جسر النيلين

كان إلى جانب ذلك رجل عائلةٍ بكل ما تعنيه الكلمة.
تزوّج من السيدة منيرة محمود السيد حسان من مصر، فكان زواج القلبين امتدادًا لجسر النيلين.
أنجبا أبناءً يواصلون طريق النور والعلم:

د. خالد عبد القيوم حسن طه — الطبيب المتخصص في الطب النفسي (Psychiatrist)

م. وليد عبد القيوم حسن طه — مهندس التقنية (Technology Engineer)

د. عبد القيوم عبد القيوم حسن طه — طبيب المختبرات المتخصص في الأورام (Oncology Laboratory Specialist)

سحر عبد القيوم حسن طه — وكيلة السفر وصاحبة الدراسات المتخصصة في السياحة (Travel Agent & Tourism Studies Specialist)

د. هالة عبد القيوم حسن طه — طبيبة المختبرات المتخصصة في أمراض الدم (Hematology Laboratory Doctor)
زهرته التي أحبها بلغة خاصة.
كان يحب جميع أبنائه كما يحب وطنه بإحساس واحد لا يفرق بينهم، لأنهم فرح حياته وعطاء الله العظيم، يضحك لهم كما لو أنه يضحك للدنيا كلها.

الإخوة… وطنٌ صغير بحجم القلب
لم يكن عبد القيوم يعيش لنفسه فقط، بل كان يعيش قلبًا للعائلة، وعمودًا يستند إليه الجميع.
كانت علاقته بإخوته وأخواته علاقة ودٍّ ونُبلٍ لا تعرف الزوال.
كان الأكبر مقامًا، لكنه الأصغر تواضعًا؛ يسمع للجميع، ويضحك معهم كأن الزمن لم يفرّق بينهم يومًا.
حين يتحدث أحدهم عن مشكلة، كان هو المستشار والملاذ والكتف التي تُسند.
وفي عطبرة، حيث البيوت تتلاصق كالأحلام القديمة، كان بيت عبد القيوم مفتوحًا دائمًا — للزيارة، للضحك، وللمحبة.
لم يكن يرى الأخوّة صلة دمٍ فحسب، بل وصيّة حياة، ومصدر طاقةٍ لا تنطفئ.
حتى بعد اغترابه، ظلّ يكتب الرسائل ويهاتفهم باستمرار، يُشركهم في تفاصيل يومه الصغيرة كأن المسافة لا وجود لها.
وكان يقول دائمًا:
“الإخوة ما بيتغيّروا بالمسافات، بيتغيّر شكل الشوق بس.”

لكنّ البلاد، كما في حكاياتها القديمة، لا تُكافئ الحلم بسهولة.
في زمنٍ من القسوة، أُبعِد من عمله ظلمًا، فقط لأنه رفض أن يُقصي مظلومًا من مقعده في القطار لصالح قريب أحد النافذين.
فدفع ثمن كرامته غربةً طويلة في الخليج، وهناك في دبي، عاش قلبه بين وطنٍ يحنّ إليه، وسماءٍ غريبةٍ تُناجيه كل مساء.

في الغربة… ظلّ كما كان

في غربته ظلّ كما عرفه الناس: متواضعًا، نبيلاً، وفيًّا، يحمل السودان في جيبه كتميمة لا تفارقه.
وفي تلك الأرض البعيدة، ظلّ يروي للأصدقاء حكايات عطبرة، ويبتسم كلما سمع صوت قطارٍ في المساء — كأنه يسمع صوته القديم يعود من بعيد.

ثم، ذات صباحٍ من عامٍ غريب، في مدينة دبي، توقّفت عجلة الحياة إثر حادث حركةٍ مفاجئ.
رحل عبد القيوم حسن طه عن عمرٍ لم يتجاوز السابعة والخمسين، لكن عمره الحقيقي كان أكبر من كلّ الأعوام — لأنه عاش بالصدق، ومات والكرامة على جبينه.

حين يرحل الذين صنعوا الجمال بصمت

بكته عطبرة، وبكته الملاعب التي شهدت خطاه، وبكاه كل من عرفه في هيئة السكك الحديدية، وفي الاتحاد العام لكرة القدم، وفي أروقة الذاكرة التي لا تصدأ.
لم يكن الراحل مجرد مدرب، بل مدرسة في الإنسانية والوفاء والعلم.
رحل الجسد، وبقي الصوت يقول:

“إن العمل الشريف لا يضيع، وإن العشب سيظلّ أخضر ما دام عليه عرق المخلصين.”

هكذا كان عبد القيوم حسن طه — رجلًا بدأ من حي الداخلة، وعاش كأستاذٍ في الصبر والحلم،
وانتهى كأسطورةٍ منسية، لكنها تُضيء في كل مرةٍ يُذكر فيها اسمه في قلب عطبرة… وفي ذاكرة السودان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..