مقالات وآراء

عاش افورقي… عاش البرهان….غياب الحشمة والرشد والحِس السليم

في مشهدٍ لم يكن ليتخيّله أكثرُ الساخرين والشامتين جرأة، ظهر الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء المعيّن في بورتسودان، يسير إلى جانب الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في شوارع أسمرا، وسط حشدٍ من المصفقين، يهتف بملء صوته؛ “عاش الرئيس أسياس أفورقي، عاش الرئيس البرهان”.

لم يكن المشهد عاديًّا… بل كان صفعةً على وجه الوعي السوداني. رجلٌ خرج من دهاليز الأمم المتحدة متزيّنًا بألق القانون الدولي، فإذا به يقف في شوارع أسمرا يهتف لطاغيةٍ يكمم أفواه شعبه منذ ثلاثين عامًا. لم يكن الهتاف زلة لسان، بل سقطة وعي، واعترافًا ضمنيًا بأن السلطة  أيًّا كان لونها أو حدودها، قادرة على تحويل “الدبلوماسي العاقل” إلى “مُصفّق مأجور”. في لحظةٍ واحدة، تحوّل كامل إدريس من رمزٍ للعقلانية السودانية المهاجرة إلى رمزٍ للارتماء في أحضان المستبدّين، ومن صوتٍ كان يطالب بالإصلاح إلى صدىً باهتٍ يردّد في شوارع أسمرا “عاش الرئيس أسياس أفورقي، عاش الرئيس البرهان”

مشهدٌ هزَّ وجدان السودانيين بين منزهلٍ ومندهشٍ وحائر، وأيقظ في الذاكرة كلّ صور التهافت على الطغاة في لحظات سقوط الكرامة.  يوما ما كان يُعتقد انّ الرجلَ رمزًا للأكاديمي والمثقف الهادئ، القادم من دهاليز الأمم المتحدة ليمنح السياسة السودانية نكهة القانون والعقل.

غير أنّ ما رأيناه في أسمرا لا يمتّ إلى القانون ولا إلى العقل بصلة. حيث بدا كامل إدريس، في تلك اللحظة، لا كزائر يطرق أبواب الجوار بحثًا عن حلول، بل كمريدٍ في حضرة شيخٍ مُستبدٍّ، يهتف باسمه كما يهتف الدراويش للأولياء في الموالد. الذين يعرفون أسياس أفورقي يدركون أنه لا يبتسم كثيرًا، ولا يوزّع المودة مجانًا، وأنّ من يهتف له إنما يقرّ ضمناً بمشروعية الاستبداد الذي أرهق الإريتريين عقودًا.

فحكم أسياس أفورقي في إريتريا ليس مجرد قيادة سياسية، بل ديكتاتورية صارمة قائمة على الخوف والقمع. ثلاثة عقود من استبداد لا يعرف الرحمة، شعبٌ مُكمّم الأفواه، معارضة محاصرة، إعلام مُسخّر بالكامل لخدمة السلطة، وجيش يُستغل لإخضاع المواطنين بدل حمايتهم.
كل محاولة للاحتجاج أو التعبير عن الرأي تُقابل بالاعتقال أو الإخفاء القسري، وكل خطوة نحو الديمقراطية تُقابل بسندان الدولة الأمني الكامل.

الهتاف في أسمرا لم يكن مجرد سقطة فردية، بل انعكاس لسياسة متعمّدة من قبل القوى المسيطرة في السودان منذ انقلاب ٢١ أكتوبر ٢٠٢١. سيطرة عبد الفتاح البرهان والإسلاميين على الحكومة المركزية وعلى حكومة بورتسودان، جعلت كامل إدريس وجسور السلطات المحلية مجرد واجهة، بلا قدرة حقيقية على اتخاذ القرارات، أو تنفيذ الخطط التنموية والإصلاحية التي وعد بها في خطاب “حكومة الأمل”.

الهتاف للطاغية الإريتري والطاغية السوداني، هو صورة مصغّرة للاستسلام المؤسسي والنخبي أمام هيمنة السلطة العسكرية، حيث يُستبدل القرار الوطني بالمجاملة، والمصلحة العامة بالإظهار الإعلاميم شعبه بالحديد والنار، ويحوّل أي مبادرة دبلوماسية إلى مسرحٍ للتمجيد الشخصي على حساب كرامة الشعوب وحقها في الحرية.

الهتاف في أسمرا ليس فصلاً منعزلاً عن سلوك إدارة كامل إدريس، بل هو انعكاس ساطع لخلل قيادي منهجي؛ قيادة تفتقر إلى رؤية استراتيجية، وإدارة لا تملك أدوات التنسيق أو الحسّ البروتوكولي الذي يميّز الدول ذات الخبرة الدبلوماسية.

الهتاف في أسمرا ليس فقط سقطة شخصية لكامل إدريس، بل رمز لانكسار المؤسسات السودانية أمام هيمنة نخبة انقلابية، فقدت الرؤية، وضاعت المبادئ، وحلّت محلها المجاملة للسلطة الخارجية والداخلية على حد سواء

في خطابه الأول، تعهّد ادريس بمعالجة مشاكل الإدارة، ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة في توزيع السلطة، وإرساء أسس السلام والحوار الوطني، وضمان عودة اللاجئين والنازحين. اليوم، وبعد أشهر على إطلاق حكومته، يظهر جليًّا أن معظم هذه الوعود لم تُترجم إلى خطوات فعلية؛ المؤسسات لا تزال ضعيفة، الفساد مستمر في أركانها، الحوار مع أطراف النزاع تراوح مكانه، والمخيمات مكتظة بلا برامج دعم حقيقية.

إن ما أعلن عنه من هيكل وزاري متكامل وشفاف ظلّ على الورق، بينما الشعب يدفع ثمن التعطيل والفشل، في الداخل والخارج على حد سواء. هذا الانفصال بين القول والفعل يجعل هتاف أسمرا أكثر إيلامًا؛ فهو ليس مجرد سقطة بروتوكولية، بل تجسيد لصراع بين خطاب مثالي وواقع مخيّب للآمال.

القيادة الرشيدة ليست مجرد شعارات أو هيكل وزاري على الورق، بل قدرةٌ على ترجمة الأهداف إلى سياسات منسجمة، وإدارة مخاطبات الجمهور داخليًا وخارجيًا بحسّ وطني يحمي المكانة والكرامة. ما شهدناه في إريتريا يكشف عن بديلٍ هش؛ قرارات تُتخذ بدون خطة اتصال واضحة، وصورًا بصرية تُعرض دون تقدير لتداعياتها الرمزية، وحضورٌ خارجي يُفقد الداخل ثقته بسبب غياب إنجاز ملموس.

فشل كامل إدريس وحكومته في كل الملفات ليس حادثًا عرضيًا، بل حقيقة متجذّرة في تاريخ النخب السودانية الذي يشي بمحاولات متكررة لتسوية المصالح على حساب المبادئ. منذ الاستقلال، مرّت النخبة السودانية بمراحل من الطموح المثالي والمشاريع النهضوية، لكنها غالبًا ما تعثّرت أمام واقع السلطة الموروثة، ووقفت عاجزة أمام الاستبداد الداخلي والخارجي.

إن فلسفة الحكم التي يفرضها البرهان والإسلاميون، وتحول النخب إلى أدوات في خدمة بقاء السلطة، تعكس مأزقًا تاريخيًا، بين رغبة الشعب في الحرية والاستقرار، وبين واقع الدولة الذي يفرض الخضوع والطاعة.

النخبة التي تهتف للطغاة أو تعمل تحت ضغط انقلابيين وعصابات الإسلاميين لن تصنع السلام، ولن تعيد اللاجئين، ولن تحقق أي تنمية حقيقية. ما حدث في أسمرا يذكّر الشعب السوداني أن التاريخ يسجّل كل سقطة، وأن أي محاولة لإخفاء الفشل خلف بروتوكولات هزيلة أو أمام طغاة محليين أو إقليميين ستبوء بالفشل، وأن الشعب وحده هو من يكتب النهاية، لا الهتاف ولا الصور الإعلامية، مهما علا صوت رئيس وزراء مدني مهما “عاش” افورقي او البرهان.

‫4 تعليقات

  1. فعلا كانت سقطه مدويه،وفضيحه مكتملة الاركان، واكبر تشويه لصورة السودان لدي العالم المتحضر

  2. المصيبه ان الشعب الاريتيرى ما بتكلم عربى عشان يفهم ليهو الكلام البقول فيهو دا دا كانو بخاطب فى الشعب السودانى بلغة الامهر

  3. قبل سنوات قليلة قام برهان بتأدىة التحية العسكرية لرئيس دولة أخرى و المفارقة هي أنه أي برهان تأبط وقتها رتبة عسكرية أعلى من رتبة ذلك الرئيس يعني حتى عسكريا الامر مهين فما بالك سياسيا

    الان جاء رئيس الوزراء و طبزها و فضحنا مرة ثانية بهتاف لا يليق بموظف صغير في سفارة السودان في ارتريا فما بالك برئيس وزراء

  4. سودانيين اصليين ناس البرهان ورئيس وزراءه غباء، سزاجة، حماقه والحديث فيما لايعنيهم قبل كده تحدث وزير خارجية الكيزان واسمه مصطفى عثمان مع رجل قمه في العلم وملم اَلَماَم تام بالسياسه وهو السلطان العماني قابوس، الوزير السوداني قاعد يربرب امام السلطان عن أشياء لاعلاقة لها بالسياسه الخارجية َنطر اليه السلطان نظره استغراب وعرف انه أمي في السياسه. وكان نفس الوزير بعد اتفاقيات شرق السودان مكلف من الرئيس ورجال حول الرئيس يذهب الوزير لجمع أموال حسب تعهد الدول الخليجية وهذا لعمري اختصاص وزارة المالية وكان الزعماء الخليجيين يقولون باستياء ادي هذا الوزير الفلوس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..