
عندما عاد الفريق أول عبد الفتاح البرهان من القاهرة، بدأت أبواق الإسلاميين وأذرعهم الإعلامية تحاول التقليل من شأن الزيارة وتقديمها كتحرك بروتوكولي عادي، بينما الواقع كان مختلفاً تماماً. فالزيارة جاءت في لحظة سياسية ضاغطة على كل المستويات، وسط تحركات دولية وإقليمية متسارعة لإيقاف الحرب في السودان.
لكن البيان المصري الرسمي بدّد كل محاولات التضليل، إذ أوضح بجلاء أن البرهان والسيسي اتفقا على أن تكون الرباعية الدولية وسيطاً لإيقاف الحرب، وهو ما يعني اعترافاً ضمنياً من القيادة العسكرية بأن الأزمة تجاوزت قدرتها على الحل الفردي، وأن التدخل الدولي بات أمراً واقعاً. هذا الإعلان أربك حسابات الإسلاميين الذين كانوا يراهنون على استمرار الحرب، وعلى أن القاهرة لن تنخرط في مسار الرباعية.
وجاءت زيارة البرهان ضمن حراك دبلوماسي إقليمي ودولي متزامن، إذ استقبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مستشار الرئيس الأمريكي لإفريقيا والشرق الأوسط مسعد بولس، الذي أكد أن اللقاء ناقش التحديات الإقليمية واستكشاف الفرص لتسهيل السلام، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تقدّر قيادة مصر في معالجة الصراعات، بما في ذلك دورها البنّاء في السودان وشراكتها ضمن إطار “الرباعية”. هذا التصريح الأمريكي أضفى بعداً إضافياً على الزيارة، مؤكداً أن واشنطن تتابع التطورات عن كثب، وأنها تراهن على القاهرة لتقريب وجهات النظر ودفع العملية السياسية نحو اتفاق شامل.
وفي الداخل السوداني، بدت حالة من الارتباك واضحة وسط الإسلاميين، الذين حاولوا تصوير التحرك المصري كصفقة مؤقتة أو مناورة سياسية، بينما الواقع أن الضغوط الدولية والإقليمية تزداد على قيادة الجيش لإيقاف الحرب والدخول في مسار سياسي جديد بإشراف الرباعية.
وفي خضم هذا المشهد، جاءت تصريحات الدكتورة أماني الطويل لتؤكد ما بات واضحاً: ليس أمام البرهان سوى تنفيذ مقررات الرباعية. فقد أثنت الطويل على الخطوات العملية التي أقدم عليها البرهان عقب عودته من القاهرة، بعد أن تعهّد بمقررات الرباعية وموافقته على خروج المؤسسة العسكرية من السلطة تماماً. ووصفت ذلك بأنه التزام حقيقي نحو التحول الديمقراطي وتعزيز الاستقرار السياسي في السودان، معتبرة أن هذه الخطوات تمثل بارقة أمل لمستقبل أكثر استقراراً.
وأضافت الطويل أن تشكيل اللجنة السياسية للحوار مع مبادرة صمود، وقرارات شطب البلاغات السياسية ورفع القيود عن استخراج الأوراق الثبوتية، تمثل خطوات إيجابية نحو تصحيح الأوضاع وتحسين حياة المواطنين، وتسهم في تعزيز وحدة وتماسك الشعب السوداني، بما يفتح الطريق أمام مدنية الدولة وبناء مستقبل أفضل.
وبذلك يمكن القول إن زيارة البرهان إلى القاهرة لم تكن مجرد محطة بروتوكولية، بل تحوّلت إلى نقطة تحول سياسية في مسار الحرب والسلام. فالقاهرة لم تعد تقف على الحياد، بل أصبحت شريكاً أساسياً في هندسة المرحلة القادمة إلى جانب واشنطن والرياض وأبوظبي.
وفي المقابل، يعيش الإسلاميون أسوأ فترات ارتباكهم، بعد أن وجدوا أنفسهم معزولين عن المعادلة السياسية الجديدة، ومرفوضين إقليمياً ودولياً. أما الجيش، فيبدو أنه يخضع لضغوط غير مسبوقة من واشنطن لإيقاف الحرب، مع تلويح واضح بإمكانية فرض عقوبات قاسية ووقف المساعدات نهائياً عن السودان في حال استمرار الانحياز للتيار الإسلامي.
وإذا لم يستجب البرهان لمسار الرباعية، فإن السودان مهدد بالدخول في نفق مظلم من العزلة والصراعات، خاصة في ظل الرفض الإقليمي القاطع لأي عودة للإسلاميين إلى المشهد. أما إذا مضى في طريق التحول المدني وتنفيذ مقررات الرباعية، فربما تكون تلك الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقّى من الوطن.



