حديث الكتب (٣٠)إعادة قراءة كتاب “الأستاذ محمود محمد طه يتحدث عن ثورة أكتوبر والوحدة القومية”…

إعادة قراءة كتاب “الأستاذ محمود محمد طه يتحدث عن ثورة أكتوبر والوحدة القومية”…
نشر الإخوان الجمهوريون هذا الكتاب في ٢١ اكتوبر ١٩٨٥ – الموافق ٧ صفر ١٤٠٦ وجاء إهداءه يبشر بالثورة الثقافية الكبرى:إلي الشعب السوداني الثائر: نهدي حديث شهيدك وشاهد ثورتك في اكتوبر ١٩٦٤،وهي الأخت الكبرى لثورتك في مارس – أبريل ١٩٨٥. وذلك حتى تتصاعد بالثورتين المجيدتين إلي الثورة الثقافية الكبرى!!
في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان، تفرض الحاجة إلى العودة إلى الجذور الفكرية النقية نفسها؛ ومن بين هذه الجذور يبرز كتاب “الأستاذ محمود محمد طه يتحدث عن ثورة أكتوبر والوحدة القومية” كوثيقة فكرية وتاريخية تنبض بالحياة، تكشف عن عمق رؤية الأستاذ محمود وقدرته على قراءة الواقع وتوجيه البوصلة نحو مستقبل أخلاقي ومدني.
لم. ينظر الأستاذ محمود إلى ثورة أكتوبر ١٩٦٤ كمجرد انتفاضة تطيح بنظام، بل كميلاد وعي جديد وفرصة لبناء وطن حر وكريم، مشدّدًا على أن الثورة الحقيقية تبدأ بثورة فكرية وروحية قبل أن تكون سياسية. ورأى أن استثمار روح أكتوبر بقيادة منفتحة وأخلاقية هو ما يمنح الثورة معناها ويدفعها إلى مشروع وطني جامع؛ وإلا فإن انحرافها يفتح الطريق لعودة الاستبداد، كما حدث لاحقًا.
في رؤية الأستاذ محمود للوحدة القومية هناك اختلاف جوهري مع مفاهيم القوة أو التجانس القسري. هو دعا إلى وحدة ترتكز على الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، يعتبر التسامح واحترام الخصوصيات أساس تماسك السودان المتعدد ثقافيًا ودينيًا وإثنيًا. الجوهر بالنسبة إليه هو الحرية الداخلية للفرد، لأنها تُنتج التماسك الحقيقي لا الشعارات الفارغة.
لقد بشّر الأستاذ محمود بثورة أكتوبر قبل وقوعها، لكنه نبّه بعد نجاحها إلى خطر فقدان أهدافها الروحية. ففشل الأحزاب في تحويل الحماسة الثورية إلى مشروع أخلاقي ومنهجي مهّد لعودة العسكر والديكتاتورية. هذه القراءة تجعلنا نرى أكتوبر كفصل في صراع أوسع بين الوعي والسلطة يستمر حتى اليوم.
إعادة قراءة هذا الكتاب ليست حنينًا للماضي بل ضرورة فكرية ووطنية. يقدم الكتاب رؤية متماسكة تربط بين التحرر السياسي والفكري والروحي، ودعوة إلى وحدة قائمة على العدالة والمساواة، وتحليلًا للثورة كعملية داخلية للفرد والمجتمع قبل أن تكون حركة جماهيرية. في زمن تتشتت فيه الأصوات وتغلب الكراهية والدعاية، يعيد الكتاب السؤال الجوهري: كيف نبني وطنًا يسع الجميع؟
يؤكد الأستاذ محمود أن الثورة الحقيقية هي ثورة الفكر، وهي التي تسبق أي تغيير مستدام. ولذلك فإن القراءة المجددة لهذا النص لا تقتصر على استذكار التاريخ، بل هي دعوة لاستئناف الطريق نحو مستقبل سلام وعدالة، وبناء إنسان جديد. أعظم تكريم لثورة أكتوبر ولرموزها الفكرية أن نستخلص من هذا الكتاب مشروعًا وطنيًا جديدًا ينهض بالسودان نحو الحرية والعدالة والوحدة الحقيقية.



