السلطة المُطلَقة والنسيان المُمنهَج.. السرية في كهف الرئاسة السودانية وتشكيل الوعي الوطني
زهير عثمان حمد

لم تكن السرية التي تطوّقت بها مؤسسة الرئاسة في السودان منذ عهد الأزهري حتى سقوط نظام البشير مجرد إجراء بيروقراطي عابر، بل كانت تشكل جوهر “اللاهوت السياسي” للدولة السودانية. لقد عملت هذه السرية على تحويل الفعل السياسي من ممارسة جماعية علنية إلى طقس سلطوي مقدس، يحتكر فهمه وتأويله نخبة الحكم، مما أدى إلى إفراغ الذاكرة الجمعية من مضمونها، واستبدال التاريخ بالأسطورة.
اللحظة التأسيسية – من دولة الوصاية إلى دولة التخفي
ورث السودان المستقل جهاز دولة هشًا، لكنه ورث معه أيضًا “عقلية الدولة الحارسة” من الاستعمار. لم يكن غياب الأرشيف في عهد الأزهري مجرد قصور إداري، بل كان تعبيرًا عن رؤية نخبوية للسلطة، حيث ظلت “أسرار الملكية” حكرًا على الطبقة السياسية الحاكمة، في تجاهل تام لحق المجتمع في المعرفة، الذي هو أساس “العقد الاجتماعي”.
فبدل أن تكون الرئاسة مرآة للناس، أصبحت جدارًا يعكس ضوء السلطة على نفسها، ويخفي عن المواطنين جوهر ما يُتَّخذ من قرارات باسمهم.
الدولة كثكنة- العسكرة وتقديس السر
مع انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958، لم يعد السر مجرد عرف سياسي، بل تحول إلى “عقيدة أمنية”. تم تسييس الجيش وتحويل الدولة إلى كيان عسكري-أمني، حيث أصبحت المعلومات سلاحًا وهدفًا في آن واحد.
تحولت الرئاسة من مؤسسة مدنية – وإن كانت ضعيفة – إلى “قيادة عامة”، تختزل الوطن في سلامتها، وأمنها في سرّيتها.
ومن هنا بدأ الوعي السياسي السوداني يتشكل حول فكرة أن “الدولة تعرف أكثر”، وأن السر جزء من مصلحة عليا لا يجوز نقاشها.
الدولة الشمولية- حين يصبح السر هو النظام ذاته
بلغت السرية ذروتها التكوينية في عهدي جعفر نميري وعمر البشير.
في هذه المرحلة، لم تعد السرية أداة لخدمة النظام، بل أصبحت هي النظام نفسه.
لقد أحاط البشير مؤسسة الرئاسة بهالة من “القداسة الزائفة”، محولًا إياها إلى كهف أفلاطوني جديد، تتحكم فيه الظلال – الأجهزة الأمنية – في واقع الشعب، وتصنع له “حقيقته” المطلوبة.
تم تفكيك مفهوم الدولة المؤسسية واستبداله بـ”الدولة العائلية” أو “دولة الشبكات”، التي تعمل في الظل. أصبحت الشفافية خيانة، وأضحى الكتمان ولاءً.
وهكذا تحولت أجهزة الدولة إلى جدران للصمت، وتحوّل التاريخ إلى ملكية خاصة لمن امتلك أدوات القمع والمعلومات.
الامتداد الجيوسياسي – السرية كرأس مال سياسي
لم يعد السر محصورًا في الشؤون الداخلية، بل امتد ليشكل العمود الفقري للسياسة الخارجية.
في عهد البشير، تحول السودان إلى “وسيط ظل” في ملفات إقليمية حساسة، حيث كانت الدبلوماسية السرية أداة لشرعنة النظام دوليًا وضمان بقائه، أكثر من كونها وسيلة لخدمة المصالح الوطنية.
هكذا دخلت البلاد في شبكة من الصفقات والولاءات الخفية مع قوى إقليمية ودولية، حوّلت السودان إلى مساحة لتصفية الحسابات السياسية، وأفرغت قراراته الخارجية من أي سيادة حقيقية.
تشريح الظاهرة – تشابك البنى السياسية مع النفس الجمعي
يمكن تفسير استمرارية هذه الظاهرة عبر تشابك عوامل هيكلية وثقافية:
الدولة الأمنية- تحولت الدولة من أداة لخدمة المجتمع إلى كيان وجودي يهدف بالدرجة الأولى إلى حماية نفسه من مجتمعه.
أزمة المؤسسية- غياب المؤسسات الرقابية المستقلة والقوانين الملزمة بالشفافية (مثل قانون الأرشيف وحق الوصول إلى المعلومات) جعل من السرية حالة قانونية لا استثناء.
اقتصاد الريع والخوف- تحولت السرية إلى رأس مال يحمي شبكات المصالح الاقتصادية الفاسدة، بينما أصبح الخوف من المحاسبة ثقافة تمنع النخب من كتابة تاريخها.
الوعي المُسَيَّس – ساهمت البنى الاجتماعية التقليدية (الطائفية والقبلية) في ترسيخ “ثقافة الطاعة” وعدم مساءلة “الكبير”، وهي القاعدة التي استثمرتها السلطة لتعميم “ثقافة الصمت” كقيمة مجتمعية.
النتائج الكارثية- اغتيال الذاكرة وإجهاض المستقبل
لم تؤدِ السرية إلى فجوات في التاريخ فحسب، بل إلى “اغتيال منهجي” للذاكرة الوطنية.
لقد تم اختطاف الماضي وتحويله من ميراث جماعي إلى رواية أحادية تنتجها السلطة.
أنتج هذا التشويه وعيًا مشوّهًا لا يستطيع استخلاص الدروس، مما جعل الأزمات تتكرر بلا انقطاع.
إن من أبرز تجليات هذه الكارثة أن الشعب السوداني لا يزال حتى اليوم يناقش قرارات مصيرية – مثل حرب الجنوب وانفصاله – بناءً على تخمينات وروايات متضاربة، وليس على وثائق وحقائق مكشوفة.
الخلاص من كهف السرية إلى فضاء المساءلة
إن الخروج من هذه المتاهة لا يكون بمجرد إنشاء “مركز توثيق”، بل يتطلب ثورة ثقافية-سياسية شاملة تهدف إلى:
تفكيك “قداسة السرية” وإعادة تعريف الأمن القومي ليس كأمن النظام، بل كأمن الشعب وحقه في المعرفة.
سنّ قوانين تضمن الوصول إلى المعلومات وحماية الأرشيف الوطني، لتصبح الشفافية قاعدة الحكم.
بناء مؤسسة رئاسية شفافة تتحول من “حصن للأسرار” إلى “منصة للمساءلة العامة”، حيث تكون السياسة فعلًا علنيًا يتشاركه المواطنون.
السرية في الرئاسة السودانية كانت سلاحًا لإنكار حق الشعب في وجوده السياسي.
فإن تحرير الذاكرة هو الخطوة الأولى نحو تحرير الوطن.
فالدولة الديمقراطية المدنية ليست دولة بلا أسرار، بل هي دولة لا تسمح لأسرارها أن تخترق حق الشعب الأزلي في معرفة مصيره.