مقالات وآراء

الخيانة… حين يصبح الوطن معروضًا للبيع… ومن يشتري الخراب؟

الصادق حمدين – هولندا

هل أنا خائن؟

سؤالٌ ظل يطرق رأسي، كأنّه صفعة وعي مؤجلة. أليس الخائن بالتعريف هو من يبيع وطنه؟ لكن ماذا لو كان هذا “الوطن” هو أول من باعنا؟ ما الذي تبقّى لنا لنتمسك به سوى شعارات جوفاء عن التضحية والفداء، في حين أن الواقع لا يُشبه إلا غابة ضارية الضعيف فيها هالك لا محالة. و “صكوك” الوطنية داخلها أصبحت “كروت” إدانة تُستثمر فيها دماء الأبرياء وطاقات الأجيال في مشاريع لا نعلم إن كانت لنا أم علينا.

لقد قيل لنا منذ الطفولة: “وطن الجدود نفديك بالأرواح نجود”حتى ترسّخت هذه الكلمات في وعينا كما لو أنها قَسم مقدس، لكننا كبرنا لنعرف أن الوطن نفسه قد تركنا مكشوفين لعواصف الفقر والقمع والتنزيح والتهجير ومجاهيل التشرد والاعتقال الجماعي في متاهة سقفها الجهل والتجهيل، وأن مناهجنا غرست فينا روايات مجيدة لا صلة لها بما نعيشه في شوارع مهترئة، ومدارس مكتظة تبيع لأطفالنا الجهل، ومشافٍ خاوية من الرحمة، ومنازل لا تصمد أمام غضب الطبيعة، وأطعمة لا تصلح للاستهلاك الآدمي، وبيئة ملوثة تقتل الحياة فينا ببطء متعمد.

نعم، هناك من يبيع الوطن، ولكن البيع لا يبدأ بالوثائق والمعاهدات، بل بالخضوع للصمت الخنوع، بقبول الذل والوصاية، وبالمشاركة في سرديات الكذب الرسمية التي تمنح خونة الأمس وسام الشرف، وتحاكم الصادقين من أبناء الوطن بتهمة “قلة الولاء والوطنية”.

انها العمالة في أبهى حلتها قشابة يا سادة. إنه السقوط الحر في مستنقع الخيانة والعمالة والنفاق، لقد ذُبح الوطن نهارا جهارا على محراب الغدر والتآمر. لقد كتبتها من قبل وسأكتبها الآن “تبا لأولئك الذين يختزلون الشرف ما بين السُرّة والفخذين”، وتبا لهذا الوطن الذي حوت مناهج تعليمه زيفا ونفاقا ما بين القول والفعل، قيل لنا في بواكير برائتنا “الوطن دونه المهج الغوالي”، وفي غفلة من التاريخ فتح هذا الوطن فخذيه للتدخلات الأجنبية والوصاية الخارجية، وتركنا نعيش في حالة تناقض وطني قاتل، وتهنا ما بين العزة والذلة.

تمسكنا الأعمى بالسرديات الزائفة التي جعلت دون وعي منا حاضرنا مرتبط بماضينا، مع قطيعة كاملة لمستقبلنا الذي هو ليس ملكنا، بل ملك لمن يأتون من بعدنا، فماذا نقول لهم؟ أنقول لهم بكل فخر كسير نعم! نعم! لقد هربنا وتركنا ظهر الوطن مكشوفا؟ يا لذلنا ويا لإنكسارنا…..ما زال عار هروبنا يقبح دواخلنا، فلم نعد نجيد إلا البكاء على حاضرنا التعيس، أما المستقبل فقد ضاع منا ما بين “من نحن ومن هم”، وضياع الهُوية في متاهة النقاء العرقي واختلاف السحن والألوان.

من يبيع اليوم نفسه وكرامته قد يبيع غدًا أكثر مما نتصور، حتى الشرف يصبح قابلًا للمساومة حين يفقد الإنسان قيمته ومعناه. لقد تهنا بين روايات البطولات المصنوعة، وحاضرٍ مُرّ نلعنه في سرّنا جهرا، وبين مستقبل نعلم أنه لن يكون لنا، بل لأجيال قادمة لن تجد ما نورثها له سوى الحسرة والضياع.

ما زال عار هروبنا الكبير من مواجهة الطغاة يلاحقنا، ليس لأننا خنّا الوطن، بل لأننا لم نملك الشجاعة لحمايته من عبث العابثين ومقامرة المغامرين. فهل نلوم من هرب، أم من دفعه للهروب؟ وهل نلعن الخونة الصغار، أم نبحث في أصل الخيانة الأكبر؟

نحن في لحظة سقوط حرّ… ليس فقط من قمة الأمل، بل من وهم الحكاية كلها. ولا نجيد الآن إلا البكاء، لا على الماضي فقط، بل على كل ما ضاع، وما سيتبدد لاحقًا.

ربما حان الوقت لنُعيد النظر في مفهوم “الخيانة” كما نعرفه، لا باعتبارها مجرد انتهاكٍ للثقة أو خروجٍ على قيم الأمانة والولاء، بل كوجهٍ آخر لفشلٍ جماعي أعمق. فكيف نُسمي تجاهل صرخات الإنسان السوداني الذي تُهدر كرامته يومًا بعد يوم داخل وطنه؟ أليست الخيانة الحقيقية أن نخذله بصمتنا، أن نراه يُهان، يُقصى، ويُحرم من أبسط حقوقه، بينما ندّعي الانتماء والمروءة؟

آن الأوان لأن نُدرك أن الخيانة لا تتجلى فقط في بيع الأسرار أو التحالف مع الأعداء، بل أيضًا في العجز عن بناء وطنٍ يحفظ كرامة أبنائه، في القبول بالذل كواقعٍ دائم، وفي التعايش مع الظلم كأمرٍ طبيعي. تلك، لعلها الخيانة الأشد إيلامًا.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..