مقالات وآراء

السياسة السودانية بين الكذب والنهب

حين تحوّلت الخدمة العامة طريق الثراء إلى غنيمة والإنسانية إلى تجارة قذرة

الكذابون

إخفاء الحقيقة منتهى الكذب
◾ كيف غرق الساسة والإعلاميون ومنظمات الإغاثة في مستنقع الكذب والثراء على حساب الجياع والمكلومين

✍ حافظ سعد الطيب

في السودان، الكذب لم يعد وسيلة للسياسة، بل صار هو السياسة ذاتها.
كل ما يُقال في المنابر، في الإعلام، في بودكاست الهواتف الذكية في بيانات القوى السياسية والمنظمات الإنسانية، يُقدَّم بوجهٍ وطنيٍ أو إنسانيٍ مصطنع يخفي وراءه شبكات نهب وثراء فاحش.
فقدت الكلمات معناها، وصارت “الشفافية” قناعاً، و“الإنقاذ” شعاراً للدمار، و“العمل الإنساني” سلّماً للصوص الجدد.

أولاً: غياب الفكرة الوطنية الجامعة

منذ الاستقلال، لم تُبنَ السياسة السودانية على مشروع وطني جامع، بل على تحالفات طائفية وجهوية ومصلحية مؤقتة.
فصار السياسي يكذب لا ليقنع الناس، بل ليخدع جماعته ويُرضي راعيه.
أما الإعلامي الذي يُفترض أن يكون عين الحقيقة، فقد تحوّل إلى بوق مأجور يجمّل القبح ويدافع عن الفشل والفساد بوقاحة مقززة.
هكذا ترسخت ثقافة التمويه والتبرير، حيث يُكافأ الكاذب ويُقصى الصادق.

ثانياً: تحوّل السياسة إلى وظيفة للثراء

منذ انقلاب 1989، تشكّل النموذج الأخطر: السياسي موظف في شركة السلطة.
المناصب تُشترى وتُباع، والولاءات تُقاس بالعطايا، والفساد صار لغة البقاء.
يتنافسون لا لخدمة الشعب، بل لتقاسم الغنائم على حسابه.
فأصبح الكذب وسيلة للبقاء في اللعبة، وأداة لترقي الفاسدين.
من يقول الحقيقة يُقصى، ومن يزوّر الوقائع يُكرّم ويُستضاف على الشاشات كـ”خبير”.

ثالثاً: الغضب كقناع للعجز

الغضب السياسي والإعلامي في السودان ليس شجاعة، بل تمثيلٌ لعجزٍ داخلي.
حين يصرخ المسؤول في وجه النقد، أو يتشنج المذيع دفاعاً عن الفشل، فذلك ليس دفاعاً عن مبدأ، بل عن مصالح.
الغضب هنا ليس موقفاً وطنياً، بل قناعٌ لإخفاء الخيانة والعجز والفشل الذريع.

رابعاً: انهيار الضمير الإنساني تحت لافتة “العمل الطوعي”

المنظمات الإنسانية، التي يُفترض أن تكون ضمير الأمة، تحولت إلى مافيا مالية بلباس الرحمة.(بلابسة)
يتحدثون عن الجوعى والنازحين، بينما يعيشون في القصور ويركبون سيارات الدفع الرباعي المشتراة من أموال التبرعات.
تُكتب تقارير براقة بالإنجليزية اللامعة، تُرفق بصور الأطفال الجوعى، لتُرسل للمانحين الذين يظنون أنهم يُطعمون الفقراء، بينما هم يُغذّون طفيليات العمل الإنساني الفاسد.
هي سوق للشفقة المعلبة، فيها يُتاجر بالوجع السوداني بلا خجل.

خامساً: الإعلاميون والساسة — شركاء الجريمة

من يتصدرون الشاشات والميكروفونات، ساسة وإعلاميون، يتبادلون الأدوار في مسرح الكذب اليومي.
يتحدثون عن الثورة وهم أبناء الأنظمة التي قتلتها،
يتحدثون عن الفقراء وهم يسرقون دعمهم،
يتحدثون عن الشفافية وهم يخفون كل شيء.
لقد سقطت الأقنعة، وصار المشهد العام خليطاً من النفاق، والثراء المقزز، والتبرير الوقح.
إنه كذب منظم بمكياج الثورة والإنسانية.

حين تصبح الحقيقة جريمة

في هذا الوطن المصلوب بين النهب والكذب، صار الصدق جريمةً بلا قانون،
وصار من يقول الحقيقة خائناً، أو “عميل تمويل”، أو “عدو للسلام”.
أما الكاذبون، فقد نُصّبوا مفكرين، ومحللين، وساسة.
إنهم يصنعون الأكاذيب كما تُصنع العملات: تُتداول يومياً ويُبنى عليها المصير.
منظمة تكذب باسم الإنسانية، وسياسي يكذب باسم الثورة، وإعلامي يكذب باسم الحرية.
كلهم يعرفون الحقيقة، لكنهم يخافون نورها، لأن ضوء الحقيقة يحرق من اعتاد العيش في ظلال الكذب.

وهكذا يُترك الشعب في مواجهة جريمتين:
النهب باسم الوطن، والكذب باسم الضمير.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..