مقالات وآراء

اغتيال ناظر “المجانين”: جريمة تتجاوز القبيلة إلى عمق المأساة السودانية

الصادق حمدين – هولندا

مدخل تمهيدي

في واحدة من أكثر اللحظات قتامة في مسار الأزمة السودانية المتفاقمة، تم اغتيال الناظر الأمير سليمان جابر جمعة سهل، ناظر قبيلة “المجانين” الرعوية واسعة الانتشار بمنطقة المزروب بولاية شمال كردفان، في جريمة لا يمكن التعامل معها كحدث معزول أو عابر. بل هي حلقة دامية جديدة في سلسلة الصراع الذي يعصف بالبلاد، صراع تجاوز كل الحدود الأخلاقية والسياسية والإنسانية.

ما حدث ليس مجرد استهداف لزعيم قبلي، بل هو استهداف رمزي ومعنوي لكيان اجتماعي كامل. فالقبيلة في السياق السوداني ليست مجرد وحدة اجتماعية تقليدية، بل تشكل ركيزة من ركائز التنظيم الاجتماعي والسياسي في الريف السوداني، واغتيال ناظر قبيلة يُعتبر بمثابة اغتيال للقبيلة نفسها، ونسف لمكانة النظام الأهلي الذي طالما لعب دورًا في تهدئة الصراعات وحفظ التوازن.

ليست حرب قبائل.. بل حرب مشاريع، من السذاجة، بل من الخطورة، اختزال ما يجري في البلاد على أنه صراع قبلي صرف، أو حرب بين طرفين أهليين. فذلك التوصيف المضلل يغفل الطابع السياسي العميق للصراع. إنها ليست حرب “آل دقلو” ضد الدولة، ولا صراع بين قبيلة وقبيلة، بل معركة شرسة بين مشروعين وجوديين: مشروع يسعى لبناء دولة حديثة، مدنية، قائمة على التعدد والتنوع والحقوق؛ ومشروع آخر يريد فرض هيمنة أحادية وشمولية تحت غطاء إثني أو جهوي أو أيديولوجي.

إن الصراع الحالي، كما تعكسه الشعارات والمواقف، مؤطر بمنطق “نحن” و”هم”، وهو منطق خطير يُراد به تفتيت المجتمع السوداني واستقطابه عرقيًا وقبليًا. هذه الرؤية الإقصائية تسعى لتفكيك نسيج الوطن عبر إذكاء الكراهية والعداوة، وتحويل كل المختلفين إلى أعداء محتملين حرب وجود مادي ومعنوي تحت شعار “إبادة حواضن الدعم السريع”.

ان عملية اغتيال الناظر سليمان جابر جمعة سهل الغادرة والجبانة، لم تكن حادثًا عاديًا، بل هي جريمة ذات أبعاد وطنية عميقة ولها امتدادات ربما تمتد لأجيال. إنها محاولة لإرسال رسالة مفادها أن كل من يمثل صمام أمان اجتماعي أو رمزية قيادية محلية هو هدف مشروع فلا “حياد” في هذه الحرب اللعينة، وهو ما يضع البلاد أمام منزلق بالغ الخطورة.

ما جرى في المزروب يجب أن يُقرأ باعتباره اعتداءً صريحًا على السلم المجتمعي، ومؤشرًا على اتساع رقعة الاستهداف، ليس فقط في دارفور أو الخرطوم، بل إلى مناطق أخرى ككردفان، التي كانت في السابق أقل تأثرًا بالعنف المباشر.

اغتيال ناظر قبيلة المجانين هو ناقوس خطر جديد يُدق في وجه كل من لا يزال يعتقد أن هذه الحرب يمكن أن تُختزل في أطر قبلية أو مناطقية. إنها حرب تمزيق وطن، لا تبقي ولا تذر. ولا سبيل لمواجهة هذا الجنون إلا بإدراك جوهر المعركة، والعمل على إعادة بناء مشروع وطني جامع، يقوم على العدالة، والمساواة، والاعتراف بالآخر.

السودان يُستنزف كل يوم، والسكوت عن مثل هذه الجرائم هو تواطؤ ضمني في استمرار المأساة والمعاناة.

[email protected]

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..