مقالات وآراء

ما بعد الحداثة والحركة الإسلامية السودانية: مقاربة في أزمة المعنى وانكسار اليقين

م. معاوية ماجد

من تفكيك السرديات إلى سقوط المطلقات… قراءة في جدلية المقدّس والعقل في الوعي السوداني المعاصر

حاولتُ في هذا المقال استكشاف جدلية العلاقة بين ما بعد الحداثة بوصفها ثورة على السرديات الكبرى والعقل الأداتي، وبين الحركة الإسلامية السودانية بوصفها مشروعًا حاول أن يعيد إنتاج المعنى في سياقٍ مأزوم بين الإيمان والسلطة. من خلال تحليل مفاهيم الأنطولوجيا (Ontology)، والمعرفة (Epistemology)، والترشيد (Rationalization)، والتجاوز (Transcendence)، والمنظومة الأخلاقية (Moral System)، يسعى المقال إلى الكشف عن التوازي بين تفكك يقين الحداثة وانكسار الخطاب الإسلامي في السودان، مبرزًا كيف تحوّلت الحركة من مشروعٍ أخلاقي إلى منظومة سلطوية فقدت قدرتها على استيعاب التحوّلات الوجودية والفكرية للعصر. وفي ضوء الرؤية ما بعد الحداثية، يُقارب النص التجربة الإسلامية لا كحركة سياسية فحسب، بل كعلامة في مسار الوعي السوداني، حيث يمتزج سقوط المطلقات ببحثٍ مؤلم عن معنى جديد للإنسان والحرية والكرامة.
وقبل البداية نتأمل ونقول: في هذا العالم الذي فقد يقينه، حيث تتشظّى الحقيقة بين الأيدي كزجاجٍ مهشّم، وحيث لم تعد اللغة قادرة على حمل المعنى كما كانت، يقف الفكر الإنساني عاريًا أمام أسئلته القديمة: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وفي قلب هذه المتاهة، يطلّ السودان كمرآةٍ للتاريخ المنكسر، تتداخل فيها العقيدة بالسلطة، والروح بالعقل، والمقدّس بالدنيوي، حتى صار الوطن ذاته سؤالًا فلسفيًا مؤجَّل الإجابة. ما بعد الحداثة هنا ليست مدرسة فكرية فحسب، بل هي حالة وعي جديدة تُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والحقيقة، بين الفكرة والواقع، بين الإيمان والحرية. وفي ضوءها، تُقرأ تجربة الحركة الإسلامية السودانية لا كحادثةٍ سياسية، بل كلحظةٍ في تاريخ العقل نفسه، حين حاول أن يمنح المعنى شكلًا، فانكسر المعنى بين يديه. ومن هذا الوعي الملتبس تبدأ الحكاية…
ففي منعطف التاريخ الحديث، حين تهاوت السرديات الكبرى وتفككت الأنساق المطلقة، برزت ما بعد الحداثة كصرخة فلسفية متمرّدة على يقين العقل الأداتي الذي شيّد به الحداثيون صروحهم. كانت دعوة إلى مساءلة العقلانية المغلقة، وإعادة النظر في مفاهيم الأنطولوجيا والمعرفة والتاريخ والتقدّم (History and Progress). وقد قال جان فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard) في تعريفه الشهير:
“Postmodernism is incredulity toward metanarratives.”
«ما بعد الحداثة هي حالة الشك في السرديات الكبرى».
بهذا المعنى، أعلن ليوتار نهاية الحكايات الكبرى التي كانت تمنح الإنسان وهم السيطرة على المعنى. أما ميشيل فوكو (Michel Foucault) فقد حوّل المعرفة إلى شبكة من علاقات السلطة، قائلًا:
“Knowledge is not for understanding: it is for cutting.”
«المعرفة ليست للفهم بل للقطع»، أي أنها فعلٌ يُنتج القوة ولا يكتفي بتفسيرها.
ثم جاء جاك دريدا (Jacques Derrida) ليقوّض مركزيات الفكر عبر مفهومه الشهير الاختلاف (Différance)، مؤكدًا أن المعنى دائم الانزلاق، لا يُستنفد أبدًا في دلالةٍ واحدة. وأكمل جان بودريار (Jean Baudrillard) المشهد قائلًا:
“The simulacrum is never that which conceals the truth—it is the truth which conceals that there is none.”
«المحاكاة ليست ما يخفي الحقيقة، بل الحقيقة هي ما يخفي أنه لا توجد حقيقة أصلاً».
من هذه الرؤى الفلسفية انبثق وعي جديد يرى الإنسان لا ككائنٍ عارفٍ يسكن يقين المعنى، بل كذاتٍ تتنقل بين رموز وصور لا نهائية، تُحاكي وجودها أكثر مما تعيشه. ومع ذلك، فإن هذا التفتت لم يكن نفيًا للمعنى بقدر ما كان دعوة إلى تواضعٍ معرفي، يعترف بأن الحقيقة لا تُمتلك بل تُسائل على الدوام.
وهنا يبرز سؤالٌ أنطولوجي عميق: إذا كانت المعرفة في تصور فوكو شبكةً للسلطة، فكيف يمكن لحركةٍ تستند إلى نصٍّ مقدّس أن تتعامل مع هذا المعطى دون أن تقع في مفارقة؟ فحين يتحوّل النص إلى أداةٍ للهيمنة بدل أن يكون فضاءً للحوار، يغدو المقدّس نفسه جزءًا من البنية السلطوية التي أراد الإسلاميون تجاوزها. وهكذا يتبدّى التناقض بين “المعرفة الإيمانية” التي تزعم امتلاك الحقيقة و”المعرفة النقدية” التي تشكّ في كلّ حقيقة. في هذا التماس الموجع بين النص والسلطة تتكشف المعضلة الجوهرية للحركة الإسلامية: أن تحمي المعنى بالمقدّس فتُسقطه في أسر السلطة، وأن تدّعي الترشيد (Rationalization) وهي تغيب عن نقد أدواتها المعرفية ذاتها.
وفي الضفة الأخرى من المشهد، كانت الحركة الإسلامية السودانية تخوض معركتها بين هويةٍ تبحث عن رسوخ وواقعٍ يصرّ على التغيّر. فقد نشأت في رحم الطموح لبناء دولة المعنى، لكنها وجدت نفسها، بمرور الزمن، أسيرة أدوات السلطة الحديثة التي جاءت لتجاوزها. كان خطابها مشدودًا بين المقدّس والعقل، بين المثال والواقع، بين الحلم الأخلاقي ومقتضيات الدولة. ومع أن مشروعها رفع راية التوحيد والتماسك (Unity and Coherence)، فإن ما بعد الحداثة كانت قد أعلنت انهيار تلك المفاهيم ذاتها بوصفها أوهامًا كبرى. وفي سعيها نحو التجاوز (Transcendence)، حاولت الحركة أن ترتفع فوق الواقع المادي لتؤسس نموذجها الخاص، لكنها وقعت في الفخ الذي حذّر منه فوكو حين قال:
“Where there is power, there is resistance.”
«حيثما توجد السلطة، توجد المقاومة».
فالمنظومات التي تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة تُعيد إنتاج السلطة باسم المعنى. وهكذا، تحوّل الخطاب الإسلامي من وعدٍ بالتحرير إلى ممارسةٍ للحراسة؛ من مشروعٍ للنهضة إلى منظومةٍ مغلقة تحتمي بالمقدّس ضد النقد. ومع انكسار الحركة أمام الواقع، تهاوت المنظومة الأخلاقية (Moral System) التي كانت قوام شرعيتها. اختلطت الغاية بالوسيلة، والمقدّس بالسياسي، فضاع المعنى في دوامة المصالح. كانت الحركة تظنّ أنها تسير نحو “الخلاص”، فإذا بها تنزلق إلى دهاليز السلطة، حيث يتلاشى الإيمان في صخب الشعارات، ويصبح “الترشيد” (Rationalization) مجرّد تبريرٍ للعنف باسم المشروع. وهنا انكشف مأزقها الوجودي العميق: أن تستعمل أدوات الحداثة لتبلغ غايات ما بعدها، وأن تحاول بناء دولة إيمانية بوسائل براغماتية.
لكنّ مقاربة ما بعد الحداثة لهذه التجربة لا تأتي لتدينها، بل لتكشف “أزمتها الفكرية البنيوية”. فهي، مثل كل مشروع شمولي، عجزت عن استيعاب التعدد والاختلاف، ووقفت ضد التفكيك والمساءلة. وقد قال يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) ناقدًا ما بعد الحداثة: “Modernity is an unfinished project.” «الحداثة مشروع لم يكتمل بعد». إلا أن ما بعد الحداثة – رغم فوضويتها الظاهرة – كانت تقول العكس: “ليس ثمة مشروع يُستكمل، لأن الحقيقة نفسها لا تُستكمل.” وبين هذين الحدّين تاه العقل الإسلامي السوداني في محاولته أن يجمع بين المطلق والإجرائي، بين الثابت والمتحول، بين “الهوية” التي لا تتبدل و”الواقع” الذي لا يثبت على حال.
ولعلّ السودان نفسه — بتعدده العرقي والثقافي والديني — كان الميدان الأوسع لهذه الجدلية بين “الأنطولوجيا الإسلامية” و”نقد الحداثة الغربية”. ففيه تلاقى التراث بالحلم، والإيمان بالعقل، والتاريخ بالجرح. غير أن التجربة الإسلامية فيه لم تستطع أن تصنع من هذا التنوع مصدر قوة، بل جعلته أحيانًا “سببًا للانقسام والصراع”. هكذا، تحوّل مشروع “النهضة” إلى مرثية طويلة، تكتبها المدن المحترقة والقرى المهجّرة، ويقرأها الناس في وجوه أطفالهم الذين كبروا على أصوات الحرب لا على دروس الفجر.
إنّ أزمة الحركة الإسلامية السودانية ليست مع الحداثة وحدها، بل مع “تحوّلات الوعي الإنساني ذاته”. فالعصر لم يعد يسأل: “ما الحقيقة؟” بل “من يملك رواية الحقيقة؟”. وفي هذا التحوّل، خسر الإسلاميون موقع “المرجع الأخلاقي”، لأنهم لم يدركوا أن المعنى في زمن الصورة يحتاج إلى لغةٍ جديدة لا تُقاس بالمقدّس وحده، بل بقدرتها على مخاطبة الإنسان في هشاشته، لا في كماله المزعوم. إنّ التحدي الحقيقي لم يعد في استعادة الخطاب القديم، بل في إعادة ابتكار معنى إنساني قادر على تجاوز الثنائيات التي كبّلت الفكر: الإيمان والعقل، السلطة والحرية، المقدّس والدنيوي.
واليوم، بعد أن خبت الشعارات وتكشّفت الأقنعة، يقف السودان أمام أسئلةٍ كبرى: كيف يمكن إعادة بناء وعيٍ جديد بعد سقوط الخطابات؟ كيف نعيد للسياسة معناها الأخلاقي بعد أن تلطّخت بالعنف؟ وكيف للإنسان السوداني أن يستعيد كرامته وسط هذا الركام؟ ربما يكون الجواب في تلك المسافة الفاصلة بين “الاعتراف بالتعدد” و”الإيمان بالمشترك”، بين “النقد الذاتي” و”الرجاء”. أن نُسائل أنفسنا لا لنهدمها، بل لنُعيد تشكيلها على ضوءٍ جديد.
إنّ مستقبل السودان لن يُبنى من شعارات ما بعد الحداثة ولا من يقين الأيديولوجيا القديمة، بل من “وعيٍ إنسانيٍّ جديد” يدرك هشاشة الحقيقة ويصون كرامة الإنسان. وذاك الوعي لا يولد إلا من رحم الألم، من إدراك أن الإيمان لا يكون بالقول بل بالفعل، وأن الحرية لا تُوهب بل تُصنع، وأن الأخلاق هي البوصلة التي لا يضلّ بها الوطن مهما عصفت به العواصف. وهكذا فقط، يمكن لإنسان السودان أن يخرج من غبار التاريخ لا بوصفه ضحية سرديةٍ جديدة، بل شاهدًا على أن المعنى الحقيقي لا يُمنح من سلطةٍ أو حركة، بل يُولد من داخل الإنسان ذاته، حين يختار أن يكون حرًّا ومسؤولًا، ويعيد للتراب روحه وللوطن صورته التي غابت.

‫2 تعليقات

  1. (( ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ )) المصدر سورة فصلت القران الكريم .
    مكمن اضطرابك انت يا كاتب المقال علاجه في هذه الآية الكريمة أعلاه . سلوك افراد او جماعات او حتى أحزاب لا يمثل حقيقة مقدس المقدس يظل مقدس وسلوك الانسان كفرد او مجموعات ي/ تظل مقاربة تقترب من هذا المقدس وتبتعد في احايين كثيرة
    المنهج الصحيح موجود وتفسيره موجود ومن له القدرة على صياغة برامج للحياة منه موجودون كذلك .
    نعم تبقت الرغبة الصادقة في اختيار هذا المنهج والسير عليه من الافراد او الجماعات
    حتى من تراهم مثال من علماء الغرب من ذكرت مقولاتهم في فلسفة الحياة وتاريخ الاجتماع البشري هم في امس الحاجة لهذا المنهج نعم قد لا يكون لك علم بهذا المنهج رغم انك مسلم مستنير بعلوم العصر ولم تدرس دينك الإسلام بعناية كافية
    المنهج هو الإسلام . الاشكال في سلوك المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..