فتيات السودان… طول أمد الحرب يفاقم زواج القاصرات

توقفت آلاف الفتيات في السودان عن الدراسة نتيجة اندلاع الحرب، وبمرور الوقت قررت عائلات كثيرة تزويج فتياتها، رغم أنهن لم يبلغن السن القانونية للزواج، بخاصة لدى العائلات النازحة واللاجئة.
لم تقتصر تداعيات الحرب في السودان، والمستمرة منذ أكثر من ثلاثين شهراً، على القتل والتشريد وتخريب البنية التحتية وتعطيل سبل حياة الملايين، بل تعدّت كل هذه المآسي إلى تدمير مستقبل آلاف الطفلات، واللاتي أصبحن ضحايا لظاهرة زواج القاصرات التي تُعد إحدى أخطر الجرائم القائمة على النوع.
ويتفشى زواج القاصرات بصورة لافتة منذ اندلاع الحرب في السودان، بالتزامن مع توقف العملية التعليمية، وموجات النزوح واللجوء، وتدهور الأوضاع المعيشية، وانعدام الأمن، وكلها أسباب تدفع كثيراً من أولياء الأمور إلى تزويج بناتهم قبل بلوغ السن القانونية، مع رواج اعتقاد خاطئ بأن هذا الزواج يمثل حماية للفتيات، خاصة في المناطق التي ترزح تحت وطأة الحرب، أو في مخيمات النزوح واللجوء.
ومع تراجع سيطرة الدولة وضعف الرقابة القانونية في مناطق واسعة من البلاد، أصبح زواج القاصرات خاضعاً لرغبة أولياء الأمور، وكذلك للعادات والتقاليد المتوارثة التي تنظر إليه على أنه أفضل الخيارات.
نزحت الطفلة سميرة عبد الله (16 سنة) مع أسرتها من أم درمان إلى إقليم كردفان، وزُوّجت في يونيو/ حزيران 2024، وتؤكد أن الحرب والزواج حرماها من استكمال تعليمها، إذ إن مدرستها أُغلقت بعد اندلاع الحرب، ثم نزحت أسرتها، وكانت تظن أنها ستعود للدراسة فور توقف الحرب، لكنها وجدت نفسها مُجبرةً على الزواج بقرار أسري لم يضع رغبتها في الاعتبار.
لا يجرّم أي من قوانين حماية الأطفال في السودان زواج القاصرات، ويخضع زواج القاصرات لرغبة أولياء الأمور والعادات المتوارثة
تقول سميرة لـ”العربي الجديد” في حضور والدتها: “لو لم تندلع الحرب لواصلت تعليمي، فأسرتي لم يسبق أن فكرت في زواجي، ولا أظنها كانت ستُفكر فيه قبل إنهاء الجامعة. كانت أسرتي مُصرّة على تعليمي، وكانت حياتنا مستقرة، إذ كان والدي يدير عملاً جيداً ساعده في إرسالي مع ثلاثة من أشقائي إلى المدارس، لكن الحرب عطّلت كل شيء، وبعد شهر واحد من اندلاعها اضطررنا إلى النزوح لإقليم كردفان، وعلى مدار أكثر من عام، كنا ننتظر توقف الحرب للعودة إلى منزلنا، لكن الحرب لم تتوقف، وأصبح تفكير والدي مطابقاً للتفكير السائد في المنطقة الريفية التي نزحنا إليها، ما جعله يقبل بزواجي من أحد الأقرباء. الزواج قلب حياتي رأساً على عقب، إذ كنت متفوقة في دراستي، وكانت لدى طموحات، ولم يخطر ببالي أن أُجبر على الزواج”.
بدورها، تزوّجت نعمات علي (14 سنة) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 من رجل أرمل، وتقول شقيقتها لـ”العربي الجديد”: “كانت تحرز المراتب الأولي في المدرسة، وكانت الأسرة مهتمة بتعليمها، لكن توقف الدراسة وانتشار ظاهرة زواج عناصر الدعم السريع من الفتيات من دون موافقة أسرهن جعلا فكرة زواجها مقبولة داخل الأسرة، بحجة الحفاظ عليها من الانتهاكات التي يتداول الناس أخبار وقوعها في المنطقة. سارعت الأسرة بتزويجها خشية مخاوف من طلب أحد عناصر الدعم السريع زواجها، وهؤلاء يتزوجون بطريقة أقرب إلى التسلية”.
وتخبر أن المأساة لم تتوقف عند نعمات، إذ على خلاف المتوقع، تزوّجت شقيقتها الأصغر، وعمرها لا يتجاوز 12 سنة من رجل لديه زوجة أخرى، وتضيف: “الزيجتان ما كان لهما أن تحدثا لولا اندلاع الحرب، إذ أصبح والدي يعمل لساعات طويلة لتوفير القليل من المتطلبات الأساسية للأسرة في المنطقة الريفية التي نعيش فيها في كردفان، وإلى جانب معاناة توفير لقمة العيش، تسيطر عليه دائماً المخاوف علينا. الكثير من العوامل والظروف أدت إلى هذا الزواج، من بينها الظروف المعيشية التي حالت دون مغادرتنا المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، وتوقف العملية التعلمية، وطول أمد الحرب، والأوضاع الأمنية المضطربة، وحدوث انتهاكات ضد النساء”.
في ولاية سنار التي خضعت لسيطرة قوات الدعم السريع خلال عام 2024، ثمة كثير من حالات زواج القاصرات، وتقول سامية (16 سنة)، التي طلبت عدم ذكر اسمها كاملاً، لـ”العربي الجديد”: “كنت في الصف الأول الثانوي عندما اندلعت الحرب، وقد نزحنا إلى ولاية كسلا (شرق)، وعشنا في مخيم للنازحين، وهناك قررت أسرتي زواجي من أحد سكان المنطقة، رغم أن فارق العمر بيننا يتجاوز ثلاثة وعشرين عاماً”.
تستطرد سامية: “لم أفكر يوماً في الزواج بهذه الطريقة، إذ كنت منكبّةً على دراستي، وكنت متفوقة، وكان حلمي الالتحاق بالجامعة التي كان يفصلني عنها عامان فقط، لكن بسبب الحرب والنزوح وتوقف التعليم، ضحت أسرتي بمستقبلي، وزوجتني من رجل عمره 39 سنة. ثمانٍ من زميلاتي في المدرسة تزوّجن أيضاً، وجميعهن أعمارهن أقل من 17 سنة. يعتقد أولياء الأمور أنه في ظل الحرب التي لا يلوح في الأفق أمل بنهايتها، وتوقف التعليم، وحالة النزوح واللجوء، فإن زواج الفتيات أفضل من الاحتفاظ بهن في المنازل أو خيام النزوح”.
في السياق ذاته، تقول الباحثة الاجتماعية فاطمة محمد عبد الله لـ”العربي الجديد”: “الظروف التي يمر بها المجتمع السوداني منذ اندلاع الحرب ضيقت عليه الخيارات العقلانية، ودفعت كثيرين إلى قرارات غير منطقية، وزواج القاصرات أحد القرارات غير المنطقية التي أصبح أولياء الأمور يلجأون إليها خشية وقوع اعتداء على بناتهم، وإلحاق الوصمة بهم، ويُنظر إلى الزواج كحماية للفتيات، بينما هو في الحقيقة تدمير لمستقبلهن”.
تضيف عبد الله: “من المتوقع أن تزيد حالات زواج القاصرات كلما طال أمد الحرب، والتي أدت إلى توقف العملية التعليمية في معظم الأقاليم لأكثر من عامين، وفي الظروف الراهنة يمكن أن تنتج عن ذلك انتهاكات متعددة بحق النساء والفتيات، فمن بين مخاطر تفشي زواج القاصرات كونه ارتداداً خطيراً عن الخطوات الملموسة التي وصل إليها تعليم الفتيات في السودان، وجهود مكافحة الزواج المبكر الممتدة لسنوات، ولا يستبعد أن تستمر هذه الظاهرة لفترة طويلة قادمة إذا لم تُبذل جهود رسمية وشعبية لوضع نهاية لها”.
ورغم تعدد القوانين الخاصة بحماية الأطفال والنساء في السودان، لكن أياً منها لم يشر صراحة إلى تجريم زواج القاصرات. وتقول المحامية علوية عبد العاطي لـ”العربي الجديد”: “لا يوجد قانون سوداني يجرم زواج القاصر، والقوانين القائمة تضع شروطاً للزواج، لكنها تترك سلطة تقديرية للقاضي الذي ينظر في قضايا زواج القاصرات، إذ يحق له تزويج الطفلة إذا رأى أنها مناسبة للزواج”.
وتستطرد عبد العاطي: “هناك ثلاثة قوانين يفترض أنها تحكم زواج القاصرات، وهي قانون الطفل لسنة 2010، والذي لم يمنع زواج القاصرات، لا صراحة ولا تلميحاً، وقانون الأحوال الشخصية لسنة 1991، وفيه المادة 34 التي تنص على عدة شروط لزواج الفتاة البالغة بدون إذن القاضي، منها إذا وافق ولي أمرها، وكان الزوج كفئاً، وكان الزواج لمصلحتها، ودُفع مهر المثل، بينما المادة 40 من القانون نفسه تجيز زواج القاصر بشرط موافقة القاضي، وأن يكون الزواج لمصلحتها، والزوج كفئاً، بينما لا يضم القانون الجنائي السوداني الصادر في سنة 1991 أي مادة تدين زواج القاصرات صراحة”.
وتتابع المحامية: “القوانين السودانية في مجملها لا تجرّم زواج القاصرات، وتعتبره فعلاً مرضياً عنه طالما انطبقت عليه الشروط الواردة في قانون الأحوال الشخصية. والواقع أن الكثير من الفتيات القاصرات لا يستطعن مقاومة قرار الزواج المُبكر، والذي يُجبرن عليه، وهناك تكتم كبير من قبل المجتمع على زواج القاصرات، ما يوقع الكثير من الفتيات فيه”.
وانخفض عدد الفتيات في المدارس التي أُعيد فتحها في بعض الولايات السودانية بصورة ملحوظة، وتؤكد المعلمة بالمرحلة الثانوية في ولاية الخرطوم، سلوى إبراهيم، لـ”العربي الجديد”، أن “بعض المدارس كان عدد التلميذات فيها قبل الحرب أعلى من عدد التلاميذ، لكن بعد فتحها مؤخراً يظهر النقص الكبير في أعداد التلميذات، فالكثير من الفتيات توقفن عن الذهاب إلى المدارس لأسباب مختلفة، من بينها أن الكثيرات منهن زوّجتهن عائلاتهن خلال العامين الماضيين”.