مقالات وآراء

السودان… الحلم الممكن في دولة بلا أغلال

في هذه الأرض التي تنبض بتنوعها، من سفوح الجبال غربًا إلى سواحل البحر شرقًا، ومن وهاد الجنوب إلى صحارى الشمال، يمتد السودان كقصيدةٍ طويلةٍ من الطمي والدمع والحلم. هنا، في فسيفساء الأعراق والثقافات واللغات، تتشكل ملامح وطنٍ لا يشبه سواه، وطنٍ أنهكته التجارب لكنه لم يفقد قدرته على النهوض من الرماد.
وفي قلب هذا الامتداد العظيم، يظل سؤال الحكم يطلّ علينا كل صباحٍ كسؤال الخلاص: كيف نحكم أنفسنا بأنفسنا دون أن نعيد إنتاج السلاسل ذاتها التي كبّلتنا عقودًا طويلة؟ لقد أدركتُ، كمواطنٍ سوداني، أن الطريق إلى الحرية لا يمر عبر الانقلابات ولا عبر الخطب، بل عبر عقدٍ جديدٍ بيننا نحن أبناء هذه الأرض، عقدٍ يُعيد تعريف السلطة لا كقوةٍ بل كأمانة، عقدٍ لا يفرضه الخارج ولا تكتبه البنادق، بل ينبع من إرادةٍ جماعيةٍ تعرف قدر الوطن وتؤمن بأن الإنسان الحر هو نواة الدولة العادلة.
لقد مرّ السودان منذ الاستقلال بمراحلٍ من الصعود والانكسار، من وعود التحرر الأولى إلى الانقلابات المتكررة التي جعلت من السلطة غايةً لا وسيلة. وكل تجربةٍ كانت تترك فينا جرحًا جديدًا وسؤالًا قديمًا: هل كنا نبحث عن الدولة أم عن من يحكمها؟ لقد آن الأوان لنعيد تعريف الدولة لا كجهاز حكم، بل كمنظومة قيمٍ تصون الإنسان وتحرّره من الخوف، وتمنح المواطن الحق في أن يكون شريكًا في القرار لا رهينةً له.
«الوطن لا يُبنى على الحماس، بل على وعيٍ يجرؤ أن يُراجع ذاته.»
“A nation is not built on passion, but on the courage of self-critique.”
أريد وطني أن يُعرف باسمه فقط: السودان. لا جمهوريةً عربيةً ولا إسلاميةً ولا اتحاديةً ولا مركزيةً إلا بقدر ما يختاره الناس بحريةٍ تامة. السودان وطنٌ سيّدٌ على قراره، لا يتبع لأي محورٍ أو جامعةٍ أو وصايةٍ أو نفوذٍ خارجي، بل يقيم علاقاته مع الآخرين على أساس الاحترام المتبادل والمصلحة العليا للوطن، في تبادلٍ خالصٍ لما يخدم مصالح الشعوب ويُعزز من كرامتها المشتركة. فالسودان لا يعيش في عزلةٍ عن العالم، لكنه يرفض أن يكون تابعًا لأي أحدٍ سواه.«من لا يخضع للقانون الذي وضعه الشعب، لا يستحق أن يحكمه.»
“He who does not bow to the law made by the people, deserves not to rule them.”
الحكم عندي ليس سلطة، بل تكليفٌ متبادلٌ بين الوطن والمواطن. أراه نظامًا مدنيًا اتحاديًا يقوم على توزيعٍ عادلٍ للقوة والموارد، وعلى مشاركةٍ فعليةٍ لكل إقليمٍ وجهة، فيكون الحاكم موظفًا عند الشعب لا سيدًا فوقه، والشعب صاحب الحق لا المتفرّج على قدره.
الاقتصاد العادل هو الوجه الآخر للحرية. فلا معنى للكرامة السياسية دون كرامة المعيشة. يجب أن يُبنى اقتصاد السودان على تنميةٍ إنتاجيةٍ عادلةٍ لا على اقتصاد الريع، وأن تُعاد صياغة مفهوم الموارد كحقٍّ جماعيٍّ للأمة، لا كمزرعةٍ للنخب. عندها فقط يصبح العمل قيمةً وطنيةً لا وسيلةً للنهب، ويصبح الفقر تحديًا يُواجه لا قدَرًا يُتوارى خلفه.
وفي هذا الإطار، فإنّ ثروات البلاد وتوزيعها في ظل هذه الرؤية ينبغي أن تكون قائمةً على المصداقية والشفافية الكاملة، لا مجال فيها للمحاباة أو الغنائم أو الصفقات. يجب أن يُبتر التفكير الذي جعل من “التمرد” بابًا لنيل الاستحقاقات، وكأنّ من يرفع السلاح يُكافأ، ومن يصبر يُنسى. لقد رأينا في اتفاقيات الماضي كيف جاءت النفوس تسعى للمطالبة بالمكاسب تحت لافتة “الاستحقاق”، بينما ظلّ الشعب الحقيقي هو من يدفع الثمن دون مقابل. وهنا يبرز سؤال جوهري لكل من يمد يده إلى خزائن هذا الوطن: ماذا قدّمت أنت لهذا الشعب حتى يكافئك؟هذا السؤال وحده كفيلٌ بأن يسدّ باب الاستغلال، ويجعل من العدل ميزانًا ومن الشفافية سيفًا يحمي حق الناس من أن يُباع في سوق المساومات السياسية.
إن التمرد لا يولد من فراغ، بل من الغبن والتهميش وغياب العدالة. لذلك فإنّ أول خطوةٍ نحو السلام الحقيقي هي معالجة الأسباب لا النتائج: توزيعٌ عادلٌ للثروة، وتمثيلٌ منصفٌ للمناطق، وبرامج تنميةٍ تمسّ الإنسان لا الورق، وعدالةٌ تصغي قبل أن تحكم. ومن هنا أدعو لإنشاء هيئة وطنية مستقلة لدمج المجموعات المسلحة في الجيش السوداني الواحد، وفق خطةٍ محكمةٍ تشمل نزع السلاح، وإعادة التأهيل والإدماج، ومساءلة من ارتكب جرائم، مع ضمان حقوق المقاتلين وتأهيلهم للحياة المدنية الجديدة.فالجيش السوداني، في رؤيتي، ليس حارسًا لحاكمٍ ولا ظِلًّا لسلطة، بل هو حلم الوطن وسلامة أراضيه، قسم ولائه للشعب لا للكرسي، ومهامه أن يحرس الحدود لا أن يؤسس الشركات، وأن يصون الأرض لا أن يقتسم الثروة، وأن يبقى جيشًا محترفًا يعرف أن شرفه في انضباطه لا في امتلاكه. فحين ينشغل الجيش بجمع المال وترك مهامه التي نصّ عليها قانونه، يفقد جزءًا من طهره الوطني. الوطن لا يحتاج إلى جيشٍ تاجر، بل إلى جيشٍ مؤتمنٍ على الحلم.ويجب أن تكون صِلة الوصل بين الجيش والحكم المدني واضحة ومؤسسية: في نظامٍ مدنيٍ ديمقراطي، يقع الدور السياسي والشرعي لتحديد الاستراتيجية الوطنية والأولويات في يد الحكومة المدنية، ويكون رئيس الوزراء، كممثل للمسؤولية التنفيذية والحكم المدني، هو الحلقة التي تُوجَّه عبرها السياسات الدفاعية وتُحترم خلالها الأعراف الدولية. تحت إشرافٍ دستوريٍ صارم، تُبقى قيادة الجيش متخصصةً في التخطيط والجاهزية العسكرية والتنفيذ التكتيكي، بينما تُعطى الحكومة المدنية—برئاسة الوزراء وبوزارة دفاع مدنية أو وزارية مختصة—مهمة الإشراف السياسي والرقابة البرلمانية المدنية على القوات المسلحة.ولا يكتمل عقدنا الوطني إلا بخارطة طريقٍ واضحةٍ للانتقال، تبدأ بحكومة مدنية انتقالية تُبنى على الكفاءة لا الولاء، وبرنامجٍ محددٍ للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، تُفتح فيه الجراح لا لنبشها بل لتنظيفها من السمّ الذي تركته الحروب والاتهامات المتبادلة.
هكذا يتجلّى المبدأ العالمي المتداول: سيادة المدنيين على القرار السياسي، وكفاءة العسكريين في تنفيذ المهام العسكرية.وفي إطار هذا التوازن، يُؤكد العقد الوطني أن الجيش مُعدٌّ للدفاع وحماية الوطن، مع جاهزيةٍ تنظيميةٍ وتدريبٍ يسمح له بأن يكون هجوميًّا حين تقتضي المصلحة الوطنية الدفاعية ذلك—لا كأداة عدوانٍ، بل كوسيلة ردعٍ واستعادة أمن وسيادة الأرض والمواطن—وتحت رقابة الحكومة المدنية والقانون الدولي. هذه الجاهزية لا تبرر التدخل في السياسة الداخلية أو التغلغل في اقتصاد الدولة، بل تجعل من الجيش قوةً محترفةً، متخصصةً في مهامها البنيوية: الدفاع، حفظ الأمن القومي، والمساعدة الإنسانية في أوقات الكوارث، ملتزمة بالقسم الذي تؤديه للدستور وللشعب.
ولأنّ الديمقراطية ليست صندوقًا فقط، بل ثقافة مشاركة، فإنّ إرادة الشعب لا تُستعار من أحد. أقترح أن يبدأ السودان صفحةً جديدة من المشاركة الشعبية الحقيقية عبر *استبيان وطني جامع* يشمل كل المواطنين من كل ولايات البلاد، يُسأل فيه: كيف نريد أن نحكم؟ ما شكل الدولة الذي نراه عادلًا؟ وما القيم التي يجب أن تُبنى عليها؟ يُشرف على هذا الاستبيان مجلسٌ من الحكماء والعلماء والآباء الذين حملوا البلاد على أكتافهم، ليكون صوت الحكمة جزءًا من الدستور القادم. فالحكمة ليست نقيض الحداثة، بل هي روحها العميقة وذاكرتها الأخلاقية.
لقد آن للسودان أن يتحرر من الأحزاب التقليدية التي جعلت من القائد معبودًا، ومن الأتباع عبيدًا. فالمواطنة لا تنسجم مع التبعية، والسياسة ليست ولاءً، بل مسؤوليةٌ أخلاقيةٌ وواعية.
«السودان وطنٌ لا يبحث عن زعيم، بل عن ضميرٍ عامٍ يستيقظ.»
“Sudan does not need a ruler; it needs an awakened conscience.”
ولذلك، أقترح إصلاحًا تشريعيًا صارمًا للأحزاب: شفافية في التمويل والمصادر، وانتخابًا دوريًا للقيادات، وعلنيةً للمداولات والمحاسبة الداخلية، وحظرًا لأي تمجيدٍ للفرد داخل التنظيم. كما يجب أن تُعرّى الممارسات السالبة أمام الملأ. من يسرق إرادة الناس باسم الزعامة يجب أن يُكشف، لا للانتقام، بل لحماية الوعي العام من الاستعباد السياسي والفكري.
أما رؤيتي لشكل الحكم في بلادي، فهي دولةٌ مدنيةٌ اتحاديةٌ ديمقراطية، نظامها برلمانيٌّ يُخضع الحاكم للمساءلة لا للتمجيد، جيشها وطنيٌّ موحّدٌ مستقلٌّ عن السياسة، قضاؤها حرٌّ لا سلطان عليه إلا القانون، ومجالسها المحلية تضم الحكماء وأصحاب الخبرة ليكونوا جزءًا من القرار لا من الظل. التعليم فيها مدنيٌّ حديثٌ يصنع من الطفل مشروعَ مواطنٍ حرّ التفكير، لا تابعًا مقلّدًا. هذه الدولة هي الممكن الذي نحلم به، وطنٌ لا تُحدّد قيمته الشعارات، بل الإرادة التي تنهض من رمادها كل مرةٍ لتقول: ما زلتُ هنا.
وفي وجدان هذا الوطن، ترقد ذاكرةُ الطمبور وأنينُ المديح، وإيقاعُ الرقصات الشعبية التي جمعت الشرق والغرب في نغمةٍ واحدة. فالثقافة في السودان ليست زينةً للهوية، بل جذرها العميق الذي يمنحها القدرة على البقاء في وجه العواصف. من تلك الأغاني التي تُغنّى في الحقول، ومن أناشيد الصوفية في ليالي الذكر، تعلمنا أن الوطن حبٌّ قبل أن يكون خريطة.
إنّ السودان الذي نحلم به لن يولد من رحم حزبٍ أو بندقية، بل من لحظة صدقٍ مع الذات، حين نجلس جميعًا — جنوبًا وشمالًا، شرقًا وغربًا — لنقول: كفى. كفى حربًا، كفى تفرقةً، كفى عبادةً للأسماء والشعارات.«حين نفقد القدرة على الحلم، نفقد حقنا في الوطن.» “When we lose the courage to dream, we lose the right to belong.”
فلنحلم إذًا. ولنكتب عقدنا الوطنيّ الجديد بحبر الوعي لا بدخان الحرب. نغلق باب التمرد بالعدل، وباب التبعية بالعلم، وباب الصمت بالمشاركة. وليكن اسمنا أمام العالم بسيطًا ومهيبًا: نحن السودان. دولة الكرامة والحرية، التي لا تبحث عن وصيّ، بل عن إنسانٍ يرفع رأسه ويقول: هذا وطني… وأنا شريكه في الحكم لا عبده.
ويبقى الحلم ، مفتوحًا وممتدًّا كالسماء. من شاء فليكتب معنا السطر القادم… ومن شاء فليضيف. فالوطن لا يكتمل إلا إذا كتبناه جميعًا. فربما في يد كلٍّ منّا قلم صغير، لكنه حين يُرفع مع الآخرين يصير نهرًا من المعنى، يكتب اسم السودان بالحبر الذي لا يجف.

تعليق واحد

  1. وما انبله من حلم وما اعظمه من طموح استاذنا معاوية , الاديب الاريب “الماجد”. تطربني بلاغتك وقدرتك الفذة على التعبير وفوق كل هذا الاحساس الصادق والجارف بحب الوطن الذي يسكن دواخلك الطيبة النبيلة. بإذن الواحد الأحد سيذهب الزبد جفاء ويمكث ما ينفع الناس. وسينهض السودان الوطن العظيم وسينطلق شعبه المعلم المتفرد من الرماد مثل طائر الفينيق ليلامس ذرى المجد الذي يستحق. أما الحثالة التي تكالبت على حكم بلدنا المنكوب على مدى عقود فعاثت فيه الفساد ولطخته بالدماء والعسف والخراب فمصيرها الى مكب نفايات التاريخ. لن يبقى لهم الا ذكرى المذابح والجرائم التي ارتكبوها في حق الوطن تطاردهم اللعنات الى يوم الدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..