مقالات وآراء

حال البلد 1/2

تاج السر محمد بدوي زين العابدين

نستعير التقليد الشائع في دول العالم بأن يلقي رئيس الدولة او رئيس الوزراء خطابا كل عام يسمى ” حال الدولة ” يتضمن ما يود ان يسمعه مواطنوه عن الوضع الامني والاقتصادي بصفة خاصة ثم يتوسع الرئيس في خطابه فيتحدث عن إنجازات حكومته. نحن نعكس هذا التقليد لنعبر عن “الحال الحقيقي لبلدنا” كما يراه الموتورون والمقهورون في الشارع السوداني العريض لنبث فيه بعض ما ينبغي أن يقال املاً في أن ينصلح الحال.
المَشاهد
منذ 15 ابريل 2023 أي منذ ما يقارب الثلاث سنوات تغوص بلادنا في الحرب التي اشعلها الجيش والدعم السريع – هكذا بإسميهما الرسميين فقط. إن ما يقلقنا ويفزعنا حقاً هو كونهم ما يزالوا يتقاتلون ويقتلون المواطنين الابرياء العزل وينهبون اموالهم ويشردونهم من بيوتهم ويذلونهم ويدمرون كل شئ امامهم من مساكن ومنشآت تجارية وصناعية وبنى تحتية والكثير مما شاهدنا أوعلمنا به أو لم نعلم. هذا امر غير طبيعي في حال الشعوب، إذ كيف يوجه السلاح إلى صدور المواطنين وهم اصحاب الارض واصحاب المال وهم العرض الذي يجب على الجيش والدعم السريع حمايته. نسجل هذه الملاحظة ونعلم أن المواطن السوداني ألِف هذه الانتهاكات عليه منذ عقود وبأشكال مختلفة ، ولا ندري متى ينقلب هذا الحال إلى حال طبيعي مثل بقية الشعوب. في هذه التقطة يحضر كثيرون منا ذلك الاجتماع ( شوهد في فيديو إنتشر سريعا) الذي عقده ضابط كبير خاطب فيه جمعاً من ضباط الفوات المسلحة وتحدث فيه عن إنحيازه للحكم المدني في السودان وأنه يجب أن يتفرغ الجيش لأداء واجبه في حماية تراب الوطن. وسريعاً تمت إقالة ذلك الضابط الكبير. وقتها تمنى كثيرون أن لو قام ذلك الضابط – بدلاً من ذلك الاجتماع – بإنقلاب عسكري ليقطع رتابة الظلم المخيم على البلد منذ عقود.
مع استمرار الحرب نزح مواطنون إلى اماكن اخرى بالداخل أو هاجروا إلى خارج الوطن كتصرف طبيعي هرباً من الموت والتهلكة. لقد عانى الجميع ما عانوا في تحركهم نزوحاً او هجرة وتكفي مرارة ان يجبر الانسان على ترك موطنه وبيته وممتلكاته، هذا إضافة إلى المرارات التي يعانيها الناس في اماكنهم الجديدة ، مرارات ليس اقلها حرمان الاطفال من التعليم. ثم استقر الجميع كلٌ على ما هو عليه: يعيشون الآن رغما عنهم في بيئات اخرى وتعود الناس مكرهين على انماط مختلفة من الحياة فيها الذلة والمهانة والصدمة من تجارب قاسية كتب لهم ان يعيشوها ويتجرعوا علقمها. في البداية رحبت الاسر المستضيفة في الداخل او بالخارج بنجاة اقاربهم من نيران الحرب وحمدوا الله على سلامة ذويهم واجزلوا لهم واجب الضيافة على الرحب والسعة. ثم يوماً بعد يوم يتكشف للطرفين محدودية القوت وضيق المكان. وبسبب هذه المحدودية وهذا الضيق رهفت أعصاب بعض الناس وتعكرت نفوس وحدث كثير مما لم يكن في الحسبان، وهذا باب نتركه للروائيين لإطلاق العنان لمخيلاتهم ويقصوا علينا قصصاً تعبر عن قضايا مجتمعية في ظل الحرب. ويعاني معظم النازحين والمهاجرين من إرتفاع الايجارات وبالطبع لم تكف مدخراتهم فلجأوا إلى المغتربين من افراد الاسرة الذين لم يبخلوا عليهم ولكن المغتربون ايضاً لم تكف دخولهم المحدودة للإستجابة لبنود الصرف الجديدة التي طرأت بسبب هجرة ونزوح اقاربهم، ومن المغتربين من كان يعتمد اصلاً على إيجارات البيوت او العقارات التجارية التي شيدوها في البلد لدعم اقاربهم واسرهم الممتدة، وبسبب الحرب نضب هذا المعين تماماً. يقول بعضهم لم تعد الصورة السابقة للمغترب موجودة حالياً لأن الحرب دمرت بيوتنا وممتلكاتنا وسرقت ما فيها من أمتعة وبالتالي تغيرت صفتنا من مغتربين إلى مهاجرين وبالفعل انتهت عقود عمل الآلاف منهم وانضموا إلى افواج مهاجري الحرب.أما اولئك الذين ظلوا في مواطنهم ومنازلهم داخل البلد فقد تعايشوا مع إطلاق النار من الجيش ومن الدعم السريع وتعودوا على الهرب والاختباء وعلى رؤية الاعتداءات على الناس والتنكيل بهم كل يوم، ثم يخرجوا من مخابئهم مرة اخرى ويتنفسوا الصعداء من نوبة الخوف التي عاشوها قبل لحظات ويعيشوا حياة كيفما تكون غصباً عنهم وصارت التكايا مؤسسات إغاثية جديدة لم تألفها بلادنا من قبل بهذه الكثافة.
تغيرت الحياة في السودان فليس هنالك حركة ذهاب إلى المدارس والجامعات ولا إلى أي عمل بمؤسسة من أي نوع إلا في نطاق بورتسودان وجيوب قليلة في بقية انحاء البلاد، مثل اجزاء من العاصمة المثلثة ، وهذا لا ينفي أن الحرب قائمة وأنه لا يأمن أي مكان في السودان من عودة المتقاتلين إليها وفي اي وقت. أما من حيث تواصل الناس هاتفياً فلا توجد شبكات إتصالات سلكية أو لاسلكية وبرزت ظاهرة نقاط واي فاي محدودة المدى والتوقيت ويقوم بشغيلها جهات غير معلومة وغير خاضعة لسلطات إدارية رسمية معلومة. بالتالي اصبحت حياة الناس محصورة في بقائهم بالمنازل والأحياء الآمنة نسبياً ويخرجون للحظات لشراء الخبز والاطعمة إذا توفرت لهم نقود في ايديهم وهذه معضلة اخرى فمن أين للناس بنقود في ظل تعطل جميع الانشطة الاقتصادية بسبب الحرب.
والآن تجري جرائم نهب منتجات السودان الزراعية والحيوانية والتعدينية على المكشوف حيث لا توجد رقابة من اي نوع فلا توجد قوات نظامية تحرس وتراقب الحدود ولا توجد جمارك ولا جوازات والعملة السودانية تزور خارج الحدود. في مايو 2022 أعلن مجلس الذهب العالمي World Gold Council أعلن أن البنك المركزي المصري اشترى 44 طن ذهب في الربع الأول من عام 2022 (لاحظ التاريخ) أي خلال الاشهر الثلاث الاولى من ذلك العام. الواضح أن هذه الكميات من الذهب تم شراؤها بالعملة المزورة ثم جرى تهريبها كما شاهدنا في صور فيديو ونذكر انه في تلك الفترة أن مواطني الشمال كانوا يتصدون للشاحنات المصرية بإقفال نقاط العبور. واليوم نسمع عن طائرات تهبط في بعض المطارات وتقلع محملة. لقد اصبحت البلاد هاملة يدخلها كل من هب ودب ويفعل فيها ما يشاء. وفي مطلع هذا الشهر تحدثت مسؤولة اممية في تقريرها أمام مجلس حقوق الانسان بالامم المتحدة ( انظر تقرير جريدة الراكوبة الالكترونية بتاريخ 8 اكتوبر 2025) عن ان مصر قامت بتهريب ما يقارب ثمانية مليارات دولار من ذهب السودان إلى مصر خلال العامين الماضيين، إلى جانب اقتطاع ستة مليارات متر مكعب من مياه نهر النيل من حصة السودان ( لاحظوا ان هذا حديث مسؤولة اممية لسجلات الامم المتحدة). ولا يعلم إلا الله كميات ما سرق الآكَلة الآخرون من ذهب السودان وموارده ، وكميات السلاح التي ادخلوها ليستخدمه الجيش والدعم السريع في قتلنا.
تلك هي المشاهد ، أما السؤآل الحائر بين الجميع هو متى تنتهي الحرب. قال كثيرون أن الحرب لن تنتهي قريباً ليس فقط لآن إنهاء الحرب رهن التفاوض، بل لسبب جوهري آخر هو أن إنهاء الحرب ليس بيد الجيش ولا بيد الدعم السريع. لقد لعبا الدور المرسوم لهما واشعلا الحرب والمطلوب هو ان يستمر الحرب باسميهما مهما تغيرت القيادات ، فالحرب تتم إدارتها الآن من جهات اجنبية تهتم بالنتائج التي خططت لها وتريد قطفها في النهاية ولا تهتم بأعداد السودانيين الذين يقتلون ولا يهمها حجم التدمير والتخريب اللذان يحدثان سواء في الفاشر او في بارا او مروي او في شرق السودان او في جنوبه أو في وسطه ما دام السودانيون “حيلهم بينهم”. وهذه خيبة ما بعدها خيبة ان نقاتل بعضنا البعض من اجل مصالح المستبدين في الداخل ومن اجل مصالح اعدائنا في الخارج.
أشرنا في بدء المقال إلى عمر هذه الحرب بالسنوات ليس لإثبات التاريخ فقط ، بل للتحذير ثم التحذير بأن الوقت يمر ونحن في غفلة من هذا السيف البتار المسلط علينا من قبل اعداء البلاد بقصد محو الذاكرة الجماعية السودانية وجعل الاجيال المتعاقبة تنسى تدريجياً كل ما يتعلق بهويتها وإرث دولتها الثقافي وثرواتها الطبيعية. في الحقيقة ظل سيف الوقت مسلطاً علينا طوال السنوات السوداء منذ يونيو 1989 ، تلك 36 سنة مرت وبلدنا في التيه والضياع، ورأينا ونرى كيف تغوص البلاد في وحل الفساد والإفساد وكل يوم يمر يصبح حال البلد أسوأ كما اراد الأعداء ، ويمر كل يوم خصماً علينا فمن دولة فاشلة إلى تخوم أن تصبح الدولة نفسها في خبر كان ، وهي نتيجة نهائية يسعون إلى تحقيقها من خلال حرب الإخوة الأعداء المستعرة الآن.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..