ثقافة وفنون

سودانهاي: مشروع إعادة الاكتشاف ولم الشمل للمجتمع الأرمني المنسي في السودان

إعادة الاكتشاف ولم الشمل: المجتمع الأرمني المنسي في السودان

تمتد جذور التاريخ الأرمني في السودان عميقا. فقد وصل أوائل الرّواد في مطلع القرن العشرين بحثاً عن سبل كسب العيش. ثم دفعتهم إبادة عام 1915 إلى الاستقرار هناك، فتحّول هذا العدد القليل من التجار إلى مجتمع كان موضع تقدير وترحاب من جيرانه السودانيين كما من المستعمر البريطاني.

وبعد استقلال السودان، أدت الاضطرابات السياسية المتتالية، والنزاعات، والانحدار الاقتصادي إلى محو شبه كامل لوجودهم. ومرة أخرى، فرقتهم الحرب ــ لكن هذه المرة أصبح تراثهم ذاته مهدداً بالزوال معهم. يهدف عملنا إلى الحيلولة دون هذا المحو. من خلال البحث والتوثيق، والاستلهام وإعادة لم الشمل، يسعى مشروع التراث الأرمني السوداني إلى صون قصص استثنائية لطالما ُظن أنها ضائعة في الشتات وعبر الزمن.

مشروع التراث الأرمني السوداني

سودانهاي، مشروع التراث الأرمني السوداني، هو مبادرة بحثية متعددة الوسائط أطلقت في يناير 2025 بدعم من مؤسسة كالوست كولبنكيان. من خلال البحث في الأرشيفات، والمقابلات الشفوية، والتعاون الفني، يهدف المشروع إلى الحفاظ على التراث الثقافي للمجتمع الأرمني السوداني ومنحه إرثاً دائماً  . في الأشهر الستة الأولى التي تلت انطلاقه، كشف المشروع عن ثروة من المواد التي بدت في البداية عصيّة على المنال.

فمن خلال سرديات التاريخ الشفوي للأرمن السودانيين، والبحث في أرشيفات تمتد من درم إلى القاهرة، وصور عائلية وصلت من أماكن بعيدة مثل أستراليا وكندا، بدأ المشروع ينسج قصة هذا المجتمع الفريد المنسي. وقد شاركنا معظم عملنا عبر المدّونات ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن في أغسطس 2025 خطا المشروع خطوته الأولى إلى المجال المادي عبر فعاليات حية في أمستردام ولندن.

خطوة إلى المجال المادي

قّدم المعرض الذي كان بعنوان “الحياة الأرمنية في السودان الاستعماري” لمحة نادرة عن حياة الأرمن في السودان خلال الحقبة الأنجلو-مصرية )1899–1956(. أقيمت الفعالية في أمستردام، باستضافة Move Collective، في التاسع من أغسطس؛ تلتها فعالية لندن باستضافة Hamazkayin – المملكة المتحدة في السادس عشر من أغسطس. ضّم 32 صورة فوتوغرافية ُجمعت من عائلات أرمنية سودانية، وأرشيفات مؤسساتية، ومجموعات المعرض خاصة.

أشرفت على تنسيقه فاطمة صالح، مسؤولة الأرشيف في المشروع وطالبة بجامعة الخرطوم نزحت إلى القاهرة منذ اندلاع الحرب في السودان. لقد أجبر النزاع ماليين السودانيين على النزوح، فخسر كثيرون ليس فقط أفراد عائلاتهم ومنازلهم ومصادر رزقهم، بل أيضاً صورهم. أما الهجرات الأرمنية السودانية في العقود السابقة فقد حفظت صوراً ثمينة عبر المنفى. واليوم تقف هذه الصور كشظايا من التاريخين السوداني والأرمني، وكحجر زاوية بصري لإرث الأرمن السودانيين.

الرحلة الطويلة

جنوباً رافق المعرض محاضرة ألقاها مدير المشروع، فاهي بوغوصيان، قّدم فيها لمحة عن تاريخ المجتمع الأرمني في السودان بين 1899 – .1956 بدأت المحاضرة برحلة ثالثة من أوائل الرّواد الأرمن: بايالغ ديرونيان،الذي كتب عن مسيرته التي استمرت خمسين يوما إلى أم درمان عام 1899 للتجارة مع الجيش البريطاني قبل أن يستقر ويؤسس عمله؛ كيفورك جيرجيان، الذي انتقل من أرابكير إلى الإسكندرية ثم الخرطوم للعمل مع إخوة كركجيان قبل أن يؤسس عمله ويصبح القلب النابض للجمعية الخيرية للأرمن (AGBU ) في السودان خلال ً العقدين 1910– 1920 وأخيرا سركيس طرنيان ، الذي انتقل إلى ملكال بمساعدة تشيركينيان التاجر الذي كان يعمل في كودوك المجاورة، حيث أنشأ متجراً عاماً يبيع البضائع لقبيلة الشلك. أظهر هؤلاء التجار الأوائل صلابة كبيرة، إذ عاشوا في عزلة عبر جغرافيات السودان البعيدة، وتأقلموا مع المناخات القاسية والظروف الصعبة سعياً إلى نجاح تجاري كان يُؤمل أن يُثري وطنهم الأصلي الفقير اقتصادياً في الدولة العثمانية.

غير أ ّن هذا الأمل تلاشى بعد الإبادة الأرمنية: لم يعد هناك وطن للعودة إليه، فتحّول السودان من مكان لكسب العيش إلى مكان للعيش.

الحياة الأرمنية في السودان الاستعماري

مع وصول أعداد أكبر من الأرمن بعد الإبادة، تحّول هذا التجمع من التجار الأرمن السودانيين إلى مجتمع حقيقي. حيث استُقبل اللاجئون، سواء عبر دعوة أقارب بعيدين أو تبنّي أيتام. وإلى جانب التجارة، بدأ المجتمع يشغل أدوارا متنوعة قي خرطوم كان يتحدث بملامح التحديث البريطاني. وقد تُرجمت نجاحاتهم التجارية إلى حياة مجتمعية نابضة وكوزموبوليتية، بمدارس وكنائس ومساحات عامة. وبحلول الاستقلال عام 1956 كانوا قد أصبحوا جزءاً راسخاً من النسيج الاجتماعي السوداني . ومع ذلك، شكلت مكانتهم أيضاً التراتبيات الاستعمارية، التي جعلت من السودان مكاناً فريداً ليكون المرء أرمنياً فيه: أكثر امتيازاً  من ”الأهالي“ السودانيين، لكن من دون مساواة مع الحكام البريطانيين. تنقّل الأرمن في واقع السودان الاستعماري بحثاً عن الانتماء، أولًا في المجال الخاص ثم لاحقا  في المجال العام . وكانت هذه الرحلة نحو العام موضوع تنسيق فاطمة صالح للصور  الفوتوغرافية، والتي تعّززت بعرض وثائق وصور وسجلات أخرى، إضافة إلى فيلم نادر من عام 1956 يوثق رقصاً أرمنياً في الخرطوم خلال احتفال ذكرى الاتحاد النسائي.

إعادة الاكتشاف ولم الشمل

في أمستردام، شكلت الفعالية أول معرض يُقام في Collective Move، وهو فضاء مجتمعي جديد للجيران والوافدين. حضرها كثير من أفراد المجتمع المحلي للمكان، إضافة إلى العديد من المهتمين بهذا الحدث الفريد. في لندن، لم تكن الفعاليات مجرد نقاشات في التاريخ، بل لحظة لقاء وتأمل. ولأول مرة يُخصص حدث بالكامل للمجتمع الأرمني السوداني.

ونتيجة لذلك، التقى أصدقاء قدامى لأول مرة منذ عقود في لندن، إحدى أبرز مواطن تواجد الأرمن السودانيين في المهجر. كما حضر أفراد من الجالية السودانية الأوسع، فتفاعلوا مع جزء من تاريخ بلادهم الذي لا يذكره إلا الجيل الأكبر، وأصبح متاحاً الآن للأجيال الجديدة. وفي ظل الحرب المستمرة والأزمة الإنسانية، حملت صور التعايش على ضفاف النيل حنينًا ممزوجا بالمرارة، ومنحت لحظة للتأمل، والاكتشاف. وغادر الحاضرون ومعهم مغايرة للسرديات المعتادة عن الحرب والدمار. كان الجو مشبعًا بالتعلق بطاقات بريدية أُعيدت طباعتها خصيصا لهذه الفعالية بعد أن كانت قد ُصنعت  أصلا في استوديوهات تصوير  أرمنية-سودانية بالخرطوم، لتصبح تذكارات تحمل نوستالجيا لفعالية كانت إبداعاً أرمنياً سودانياً خالصاً . بالنسبة لـ سودانهاي، لم تكن هذه الفعاليات إلا البداية. فمشاركة البحث والحوار مع المجتمعات المرتبطة بالمشروع مناسبة مميزة. لكن الأهم من ذلك أن الفعالية حّولت الذاكرة والبحث إلى إرث. ومن خلال القدرة على مشاركة هذا الإرث، يتجاوز المشروع حدود الموقع الإلكتروني أو صفحة وسائل التواصل الاجتماعي ليصبح جزءاً من تاريخ المجتمع الأرمني السوداني ــ تاريخ سنواصل اكتشافه ومشاركته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..