مقالات وآراء

حرب الكرامة… أم حرب الهاربين؟

في كل يومٍ جديد، يتساقط قناعٌ آخر من أقنعة ما يُسمّى بـ”حرب الكرامة”، حتى لم يبقَ سوى وجهها الحقيقي: حرب عبثية، أشعلها مجرمون، ويواصلون تغذيتها باستقواء المجرمين بالمجرمين، في استنفارٍ كشف عن انهيارٍ كاملٍ للدولة وانفلاتٍ أخلاقيٍّ غير مسبوق في تاريخ السودان.
قبل أيام، فجّرت الإدارة العامة لشرطة السجون والإصلاح واحدةً من أكبر الفضائح، حين أعلنت أن آلاف المحكومين في سجون السودان – من بينهم سجناء كوبر والهدى – قد تم إطلاق سراحهم بتعهداتٍ بالعودة، وأن أغلبهم اليوم من “المستنفرين” في القوات المشتركة أو ضمن تشكيلاتٍ عسكرية لا تعرف الشرطة حتى الجهة التي تتبع لها!
الشرطة، وهي الجهة المعنية بتطبيق القانون وحماية المجتمع من المجرمين، وجدت نفسها عاجزة عن القبض على هؤلاء، لأنهم اليوم يحملون السلاح باسم “الوطن”، ويقاتلون في صفوفٍ يُفترض أنها تدافع عن “الكرامة”! أي كرامةٍ هذه التي تستقوي بالقتلة واللصوص والمغتصبين؟
بل إنّ الإدارة العامة للسجون، بحسب ما ورد في تصريحات النقيب مدثر عبدالرحمن الجاك، طالبت القوات المسلحة والقوات المشتركة بكشوفات المستنفرين لمعرفة من هم أولئك المحكومون الذين تم تجنيدهم، لكنها – ومنذ أكثر من شهرين – لم تتلقَّ أي رد. وهذا وحده كافٍ ليدين منظومة الحرب كلها، ويؤكد أن ما يجري ليس استنفارًا وطنيًا، بل عملية منظمة لتبييض المجرمين تحت لافتة الوطنية الزائفة.
ولم تتوقف الفضيحة عند هذا الحد. أحد ضباط الشرطة كشف عن حالة صادمة لمجرمٍ كان محكومًا بالإعدام بعد إدانته بقتل شقيق زوجته والسطو على محلات تجارية، تم تخفيف عقوبته إلى المؤبد، ثم أُطلق سراحه، ليظهر لاحقًا مرتديًا زيًا عسكريًا ومسلحًا داخل منزل طليقته في جبرة، يهدد ويعذب ويكسر القوانين من جديد.
وعندما داهمت الشرطة منزله، وجدت سلاح “كلاشنكوف” وصندوق ذخيرة وملابس عسكرية، لكنّها لم تستطع تحديد الجهة التي يتبع لها المجرم. أليس هذا إعلانًا رسميًا بانهيار الدولة؟
لقد قالوا من قبل إن “الدعم السريع” هو من أطلق سراح المساجين.
لكن اليوم، وها هم يعترفون بألسنتهم: الجيش نفسه أطلقهم “بتعهدات” بالعودة!أي مهزلة هذه؟! أي كرامةٍ يُقاتل من أجلها من أُدينوا بالقتل والنهب والاغتصاب؟!
إنّ ما يسمّى بـ”الاستنفار” ليس سوى اسم آخر لـتحالف الإجرام ضد الوطن.لقد صارت الحرب في السودان ملعبًا لكل من أفلت من العدالة، ومهربًا من السجون، ومغسلةً لتاريخٍ ملوثٍ بالدماء.
الاستنفار ليس وطنيًا، بل عملية منظمة لتجريف القيم، وتدمير ما تبقّى من المؤسسات، وتعميم الفوضى حتى لا يبقى في السودان من يفرّق بين الجندي والمجرم.
إنّ حرب الكرامة ليست حربًا من أجل السودان، بل حربٌ عليه.
هي حربٌ لتأبيد سلطةٍ فاسدةٍ، لا تعرف سوى لغة الدم والتضليل، تُطلق القتلة لتقاتل بهم، وتدّعي الدفاع عن الشرف والكرامة، فيما الشرف يُنتهك في وضح النهار، والكرامة تُدفن تحت الركام.
وليس أبلغ من هذا المشهد لتلخيص المأساة:سجونٌ مكتملة التجهيز بلا مساجين، وجبهاتٌ مكتظة بالمجرمين المسلحين باسم الوطن.
تلك هي “حرب الكرامة” الحقيقية… حربٌ بلا كرامة، واستنفارٌ بلا وطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..