مقالات وآراء

مأمون مصطفى حسن طه .. سيرة من نور وعزم

م. معاوية ماجد

رجلٌ على قضبان التجربة ورسالةٌ إلى والي نهر النيل

في مدينةٍ وُلدت من رحم الحديد والنار، حيث تُصفّر القطارات كلَّ صباح وكأنها تُعلن قيامَ يومٍ جديدٍ من الكدِّ والانضباط، خرج من بين أروقة عطبرة رجلٌ يُشبهها في عنفوانها وصلابتها وصدق عطائها… مأمون مصطفى حسن طه.

ابنُ المدينة التي تعرف الرجال بالعمل لا بالكلام، وبالقدرة على البناء لا الادعاء، نشأ في أحضانها وتربى بين صدى المطرقة وصفير القاطرات، فامتصّ من بيئتها قيم الجد والانضباط، ومن والده الموظف في السكة الحديد، الذي كان يرى فيه نموذج الالتزام والخلق الرفيع، تعلّم أن العمل عبادة، وأن العلاقات الإنسانية ركيزةٌ من ركائز النبل والسمو.

في عطبرة، حيث تتنفس المدينة من رئة المصانع والمدارس، وتستيقظ على صوت العزيمة قبل أن تشرق الشمس، درس مأمون في مدارسها التي كانت آنذاك مناراتٍ للعلم والتربية، فشبّ متعلّقاً بالكتاب والقيم، مؤمناً بأن التعليم ليس وسيلة للرزق، بل طريقٌ للنهضة وكرامة الإنسان. ثم حمل شغفه بالمعرفة إلى سوريا، وهناك أكمل تعليمه الجامعي، ليعود بعدها لا كغريبٍ عن مدينته، بل كغيمةٍ محمّلةٍ بخيرٍ جديد.

اختار التعليم ميداناً له، ووهب عمره لبناء العقول قبل أن يسعى لبناء المناصب، يتنقّل بين الصفوف والمدارس حتى بلغ موقعه مديراً لمدرسة عطبرة الصناعية، تلك المدرسة التي صارت على يديه ورشةَ وعيٍ وانضباطٍ وتنوير.

وقد شغل بعد ذلك منصب نائب المدير العام للتعليم بولاية نهر النيل – عطبرة، وهو المنصب الذي ما زال يتقلده حتى اليوم، حاملاً معه خبرته الطويلة وهمَّه الوطني الصادق، ليكون صلة وصلٍ بين الميدان والقيادة، وامتداداً لمسيرةٍ مهنية بدأت من الصف وانتهت إلى قمة الهرم الإداري.

وفي كل المواقع التي عمل بها أثبت كفاءته واقتداره في الإدارة والتخطيط والتنظيم، فكان مثالاً للرجل الذي لا تهمه الألقاب بقدر ما يعنيه أن يؤدي الرسالة في أي موقعٍ يُوضع فيه، فاستحق بذلك تقدير زملائه واحترام رؤسائه، وأثبت أن القيادة ليست أمراً يُمنح، بل روحٌ تُختبر في الميدان.

ورغم انغماسه في العمل العام وانشغاله بهموم التربية والتعليم، لم يكن مأمون مصطفى حسن طه أسير انتماءٍ أيديولوجيٍّ ضيّق، بل كان يوازن بين الرؤى والتيارات بفكرٍ ناضجٍ وعقلٍ مفتوح. في كل اتجاهٍ له أصدقاء يجلّونه ويحترمون رأيه، ويستفيدون من عمق حواره واتساع أفقه، إذ كان يؤمن أن الاختلاف مصدر إثراءٍ لا انقسام، وأن الوطن، لا غيره، هو الهمّ الأكبر الذي يستحق أن تُدار حوله النقاشات وتُوجَّه نحوه الطاقات. لذلك ظلّ في نظر معارفه رمزاً للاتزان الفكري والنقاء الوطني، وصوتاً عاقلاً وسط ضجيج الشعارات.

غير أن الحياة التي تبتسم للصادقين لا تعفيهم من امتحاناتها الموجعة. فقد شاءت إرادة الله أن يُصاب قلب مأمون بمحنةٍ عظيمة حين ألمّ المرض بزوجته، شريكة عمره ورفيقة دربه، فأخذ بيدها نحو طريق العلاج في مصر، لكنه لم يُكمل الرحلة كما أراد. هناك، في الطريق بين وطنه وبلاد الغربة، سلّمت الروح أمانتها إلى خالقها، تاركةً في قلبه فراغاً لا يُملأ، ووجعاً لا يُقال. كانت لحظة الفقد أشبه بانكسار الضوء داخل الرجل الذي طالما واجه الحياة بثبات الحديد، فاهتزّ، لا ضعفاً، بل إنسانيةً، إذ كيف لا، والراحلة كانت أمّ أبنائه وعمود بيته ونسغ أيامه.

وفي خضم تلك الجراح، لم يتراجع مأمون عن أداء واجبه تجاه الناس والوطن، بل ازداد تواضعاً واقتراباً من معاناة الآخرين. ففي زمن الحرب وما رافقها من نزوحٍ وتشريدٍ لأهل الخرطوم، كان أحد الفاعلين بصمتٍ في العمل الإنساني والإيواء، يمدّ يده بالعون ويوفر سبل الحياة للنازحين دون أن يسعى إلى ضوء الكاميرا أو كلمة الثناء. كان يؤمن أن الخير يفقد جوهره حين يُقال، وأن الصدق في العطاء أن يكون من وراء حجاب، لذلك ظل يعمل في الظلّ، رافضاً الرياء، مكتفياً بأن يرى البسمة تعود على وجوه المرهقين من رحلة النزوح والوجع. هكذا تجلّت إنسانيته العميقة في أبهى صورها، حين جمع بين صلابة الموقف ورقّة القلب، بين الحديد والرحمة.

ذلك الحدث الموجع وما تلاه من مواقف إنسانية لم تكن محطاتٍ عابرة في سيرته، بل مرايا صافية أظهرت مكانته في المدينة، فقد تدافعت إليه عطبرة بأهلها ووجهائها ومعلّميها ورجالها، يُواسونه في مصابه ويحيّونه في عطائه، وكأن المدينة كلها تقول له: لسنا نعزّيك فحسب، بل نقف معك لأنك واحدٌ منّا، لأنك من الذين حين يحزنون نحزن، وحين يقومون ينهض معهم الوطن. كانت تلك الوقائع دليلاً على قدر الرجل في القلوب، ومؤشراً على عمق أثره الإنساني والاجتماعي في محيطه.

إن مأمون مصطفى حسن طه ليس مجرد إداريٍّ ناجح أو مدير مدرسةٍ متميّز، بل مشروع قائد تربوي يليق أن يتصدر مشهد التعليم في ولاية نهر النيل. فهو ابن المنطقة، يعرف ناسها وطرائق تفكيرهم، ملمٌّ بتحديات التعليم وسبل تطويره، ولديه من التجربة والرؤية ما يؤهله لأن يعيد للتعليم هيبته وللمعلم مكانته. رؤيته ليست تنظيراً، بل خطةٌ واقعية لتطوير المناهج وتأهيل الكوادر، وربط التعليم بالحياة والعمل والإنتاج.

ولذلك فإن النداء هنا صادقٌ ومخلص، موجّهٌ إلى والي ولاية نهر النيل: برغم التراتيبية التي يفرضها التسلسل الوظيفي في مؤسسات الدولة، إلا أن ثمة رجالاً تتجاوز مؤهلاتهم ومقدراتهم تلك الحدود الإدارية الجامدة، لأنهم ببساطة يمتلكون الأدوات المكتملة التي تجعل القفز إلى مواقع القيادة استحقاقاً لا استثناءً. ومأمون مصطفى حسن طه واحدٌ من هؤلاء الرجال الذين يستحقون أن يُنظر إليهم بعينٍ مختلفة، وأن يُمنحوا الفرصة لقيادة دفة التعليم من أعلى منصبٍ فيه، كوزيرٍ للتربية والتعليم بولاية نهر النيل. ليس لمحاباةٍ أو مجاملةٍ، بل لإيمانٍ بأن من جرّب الميدان، وفهم الناس، وعايش التحديات، هو الأقدر على إصلاحها.

في زمنٍ تتقاذفه العشوائية وتضيع فيه الكفاءات بين الصمت والمحاباة، هناك رجلٌ يقف شامخاً كالسكة التي نشأ بجوارها، ثابتٌ كقضيب الحديد، نقيٌّ كالنيل حين يفيض على عطبرة. إن الاستفادة من خبرته ليست منحةً له، بل استثمارٌ في مستقبل أبناء الولاية، لأن من يعرف جذور الأرض أقدر على غرس بذور النهوض فيها.
ولعلّ التاريخ، حين يروي سيرة عطبرة يوماً، سيذكر أن من بين أبنائها خرج من آمن بأن التعليم هو طريق الخلاص، وأن من صلب الحديد يمكن أن يُولد الوعي، ومن رحم العطاء يمكن أن تنبت وزارةٌ تستحق أن تُسمّى تربيةً وتعليماً.

هكذا هو **مأمون مصطفى حسن طه**… ابن عطبرة البار، رجلٌ من ضوء الحديد، صقلته التجربة ووشمته الفجيعة بالحكمة، يحمل في قلبه وهج العلم، وفي روحه صلابة السكة الحديد، وفي رؤاه ما يجعل المستقبل أقرب وأجمل. ومن مثله، تُضاء الدروب لا بالقرارات فحسب، بل بمشاعل الفكر والصدق والإيمان بإنسان هذا الوطن.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..