مقالات وآراء

التفاوض في واشنطن.. ما بين النفي الرسمي والتأكيد الأمريكي

زهير عثمان حمد

في ظل استمرار النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ أكثر من عامين، والذي أودى بحياة عشرات الآلاف وأدى إلى نزوح ما يزيد عن 12.7 مليون سوداني، تصاعد الجدل حول جولات تفاهمات غير معلنة تجري في العاصمة الأمريكية واشنطن.

وفقًا لمصادر دبلوماسية وإعلامية، تشمل هذه المحادثات ممثلين عسكريين من الجانبين، بوساطة مباشرة من الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات). وتشير تقارير من وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن الاجتماعات “غير المباشرة”، التي بدأت الأسبوع الماضي، تهدف إلى اتفاق هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر تشمل فتح الممرات الإنسانية دون قيود، مع التركيز على إيصال المساعدات إلى مناطق منكوبة مثل الفاشر وخشم الجزيرة.

ورغم التكتم الشديد الذي يفرضه الوسطاء الأمريكيون، تسرب الخبر إلى الإعلام، مما دفع مجلس السيادة السوداني إلى إصدار نفي رسمي عاجل في 23 أكتوبر، ينفي فيه وجود أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع “المليشيا المتمردة”. لكن مصادر أمريكية وإقليمية أكدت وجود وفود عسكرية رفيعة المستوى من الجانبين في واشنطن، بقيادة ضباط استخبارات عسكرية، ضمن ما وُصف بـ”مرحلة تحضيرية عالية المستوى” تمهيدًا لمفاوضات سياسية شاملة.

النفي الرسمي السوداني: الخوف من التمرد داخل المؤسسة العسكرية

جاء بيان مجلس السيادة ليؤكد أن موقف الدولة “ثابت وواضح” في التمسك بالحل الوطني الذي يحفظ سيادة السودان ووحدته واستقراره، محذرًا من أي تسوية تمنح الدعم السريع شرعية سياسية.

لكن وراء هذا النفي أسباب أعمق تتصل بتوازنات داخلية دقيقة:

الخشية من تمرد التيارات الإسلامية داخل الجيش المرتبطة بالمؤتمر الوطني السابق، والتي ترى أن أي تفاوض مع الدعم السريع هو خيانة لدماء الجنود، خاصة بعد اتهام المليشيا بارتكاب جرائم إبادة جماعية في دارفور، وهو ما أكدت عليه وزارة الخارجية الأمريكية في يناير 2025.

الخوف من اهتزاز الروح المعنوية للقوات المسلحة بعد نجاحها في استعادة الخرطوم في مارس 2025. فالهجمات الأخيرة بالطائرات المسيرة (21–23 أكتوبر) على مطار الخرطوم أسفرت عن خسائر مدنية، وأي إشارة لوقف القتال قد تفسر كضعف أو تراجع.

تجنب ظهور القيادة بمظهر الضعف أمام الضغوط الدولية، خاصة في ظل تهديدات بعقوبات أمريكية على قادة الطرفين إذا فشلت مساعي الهدنة.

وجاء هذا النفي متزامنًا مع تصريحات الفريق أول عبد الفتاح البرهان في بورتسودان، حين قال إنه “يرحب بأي مفاوضات تحمي كرامة السودان”، لكنه شدد على أن “إنهاء التمرد” هو الشرط الأول لأي سلام.

الموقف الأمريكي: “إيقاف الحرب بأي ثمن”

أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن واشنطن تستضيف محادثات غير مباشرة عسكرية–عسكرية لوقف إطلاق النار الإنساني، يعقبها تفاوض سياسي شامل. وقال مسؤول أمريكي إن الاجتماعات تشمل نائب وزير الخارجية ووسطاء إقليميين، مع استبعاد السفير السوداني عمر الصادق للحفاظ على الطابع العسكري للمباحثات.

لكن مراقبين يرون أن هذه الرؤية الأمريكية ليست خالية من الحسابات السياسية. إذ تسعى إدارة الرئيس ترامب إلى إبقاء الدعم السريع فاعلًا سياسيًا، باعتباره حاجزًا أمام عودة التيارات الإسلامية، خاصة مع تقارير دولية تشير إلى دعم إماراتي عسكري للمليشيا.

وتستخدم الرباعية نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي لإجبار الجانبين على التوقيع، لكن الشكوك تتزايد حول نوايا واشنطن في إدارة الصراع بدلًا من إنهائه، ضمن توازنات إقليمية معقدة تشمل السعودية والإمارات ومصر.

السياق التاريخي للوساطات السابقة

ليست هذه المفاوضات الأولى. فقد سبقتها محادثات جدة 2023 التي فشلت بسبب عدم التزام الدعم السريع بوقف إطلاق النار واستمرار الهجمات في دارفور والخرطوم. كما تعثرت مبادرة جوبا 2024 بسبب الخلاف حول دمج القوات وآليات العدالة الانتقالية.
ويأتي المسار الأمريكي الجديد بعد إخفاق كل تلك المبادرات، مما يمنحه أهمية خاصة، لكنه يواجه العقبة ذاتها: غياب الثقة الكاملة بين الطرفين.

خريطة السيطرة الميدانية الحالية (أكتوبر 2025)

الجيش السوداني يسيطر على ولايات: الخرطوم، نهر النيل، الشمالية، البحر الأحمر، وسنار.

قوات الدعم السريع ما تزال تسيطر على أجزاء واسعة من دارفور، كردفان، وجنوب الخرطوم، إضافة إلى بعض جيوب في الجزيرة والنيل الأبيض.

الحدود الغربية مع تشاد أصبحت ممرًا لتدفقات سلاح ومقاتلين، مما يعقّد الموقف الميداني.

هذه الخريطة غير المستقرة تفسر تركيز واشنطن على هدنة إنسانية أولاً كخطوة ضرورية قبل أي حل سياسي دائم.

الموقف الإقليمي الأوسع

مصر تتابع المفاوضات بحذر، وتتمسك برؤيتها لـ”جيش وطني موحد” على حدودها الجنوبية، وتخشى من تمدد نفوذ الدعم السريع أو المرتزقة الأجانب.

إثيوبيا، التي تستضيف لاجئين سودانيين، تدعم المسار السياسي لكنها ترفض أي وجود عسكري أجنبي على الحدود المشتركة.

السعودية والإمارات، بوصفهما جزءًا من الرباعية، تمارسان نفوذًا قويًا عبر المساعدات المالية والدبلوماسية، وتسعيان لحل يضمن مصالحهما في البحر الأحمر والذهب السوداني.

جدول زمني لتطورات الصراع

15 أبريل 2023: اندلاع المواجهات بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم.

مايو – أكتوبر 2023: فشل محادثات جدة وامتداد القتال إلى دارفور.

يناير 2024: تقارير عن مجازر في الجنينة، وبدء نزوح جماعي نحو تشاد.

مارس 2025: الجيش يستعيد الخرطوم بعد معارك عنيفة.

أكتوبر 2025: بدء محادثات واشنطن تحت رعاية الرباعية.

البعد الإنساني: مجاعة تلوح في الأفق

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 25 مليون سوداني بحاجة ماسة إلى المساعدات، بينما يواجه ثمانية ملايين خطر المجاعة المباشرة، خصوصًا في دارفور وكردفان.
تؤكد منظمات الإغاثة أن فتح الممرات الإنسانية هو شرط للبقاء، إذ تُمنع الشحنات من العبور في مناطق القتال، ما جعل الوضع الإنساني الأسوأ عالميًا في عام 2025.

مستقبل العملية السياسية

رغم تركيز جولات واشنطن على وقف النار، إلا أن الأسئلة الكبرى ما تزال مطروحة:

من سيقود المرحلة الانتقالية بعد الهدنة؟

هل ستكون حكومة مدنية مدعومة من الجيش كما يقترح البرهان، أم حكومة شراكة سياسية–عسكرية كما تطالب بها قوى الدعم السريع؟

وما هو موقف القوى المدنية (تجمع الحرية والتغيير، الحزب الشيوعي، الإسلاميين) من أي تسوية مفروضة من الخارج؟

الحل الوطني الذي تتحدث عنه المؤسسة العسكرية يقوم على إعادة بناء جيش موحد وإجراء انتخابات بعد فترة انتقالية محددة. أما الدعم السريع وبعض الأحزاب المدنية، فيرون أن أي حل يجب أن يبدأ بـ”تفكيك دولة التمكين” و”إصلاح مؤسسات الأمن” قبل الحديث عن الانتخابات.

الفكرة المركزية هي أن السودان الرسمي لا يرفض مبدأ التفاوض، لكنه يرفض تحويله إلى منصة تمنح المليشيا المتمردة شرعية سياسية دون تفكيكها ونزع سلاحها.
وأي تسوية لا تنتهي بجيش وطني موحد ومحاسبة الانتهاكات ليست سلامًا حقيقيًا، بل هدنة مفروضة تعيد إنتاج الصراع وسط واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..