نوبل تكافئ «التدمير الخلّاق»: عندما يصبح الهدم طريقاً للازدهار

محمد سنهوري الفكي الأمين
• في قرار يعكس أهمية الابتكار كمحرك للتقدم الاقتصادي، منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في الاقتصاد لكل من فيليب أجيون وبيتر هاويت، تقديراً لعملهما في «التدمير الخلّاق» ودوره في النمو الاقتصادي. هذا المفهوم، الذي يبدو متناقضاً للوهلة الأولى، يكشف عن حقيقة عميقة، وهي أن الازدهار الاقتصادي لا يولد من الاستقرار والسكون، بل من عاصفة مستمرة من الهدم وإعادة البناء، فما الذي يجعل هذه النظرية جديرة بأرفع تقدير علمي؟ وكيف تفسر التحولات الجذرية التي نشهدها اليوم؟
يعود أصل المصطلح إلى المفكر النمساوي جوزيف شومبيتر، الذي طرحه في كتابه «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» عام 1942. لم يكن شومبيتر مجرد اقتصادي، بل فيلسوف رأى في الرأسمالية قوة ثورية لا تهدأ، فبينما كان معاصروه يركزون على التراكم الرأسمالي والإنتاج الضخم، أدرك شومبيتر أن القلب النابض للنظام الرأسمالي هو الابتكار المستمر، الذي يطيح بالقديم ليفسح المجال للجديد. كل موجة من الابتكارات تدمر ما سبقها، وكل تدمير يفتح آفاقاً جديدة للنمو، في دورة لا تنتهي من التجدد الذاتي. رأى شومبيتر أن رجل الأعمال المبتكر هو البطل الحقيقي للرأسمالية، لا المستثمر الذي يكتفي بتراكم الثروة.
لكن الفكرة ظلت فلسفية وملهمة لكنها غير قابلة للقياس، حتى جاء روبرت سولو عام 1956 ليدمج الابتكار في نماذج النمو الاقتصادي، موضحاً أثره الحاسم في رفع الإنتاجية، غير أن سولو عامل الابتكار كقوة خارجية غامضة، تأتي من خارج النظام الاقتصادي، هنا يكمن إسهام أجيون وهاويت الحاسم، فقد حولا في بحثهما المنشور عام 1992 نظرية شومبيتر إلى نموذج رياضي دقيق، يفسر الديناميكية الداخلية للابتكار. أظهرا كيف أن قطاع البحث والتطوير يخلق سلسلة من الاحتكارات المؤقتة، كل مبتكر يحصل على أرباح استثنائية حتى يظهر منافس بابتكار أفضل، فيفقد الأول مكانته وتتلاشى أرباحه، هكذا تتحول الفكرة الفلسفية إلى آلية اقتصادية قابلة للقياس والتحليل والتنبؤ.
ولفهم هذه الآلية في الواقع المعاصر، يكفي النظر حولنا. Netflix لم تكتفِ بمنافسة متاجر تأجير الفيديو مثل Blockbuster، بل محتها من الوجود تماماً، وأجبرت شبكات التلفزيون التقليدية على إعادة اختراع نفسها أو مواجهة الانقراض. Uber وCareem قلبتا صناعة النقل رأساً على عقب، مدمرتين نموذج سيارات الأجرة القائم منذ عقود على التراخيص الحكومية والاتصال الهاتفي. Tesla تهدد عمالقة صناعة السيارات الذين، بنوا إمبراطورياتهم على محركات الاحتراق الداخلي، مجبرة إياهم على الاستثمار المتأخر في السيارات الكهربائية. Airbnb أعادت تعريف الضيافة، منافسة الفنادق التقليدية بنموذج اقتصادي لم يكن موجوداً قبل سنوات قليلة، معتمدة على تحويل كل منزل إلى فندق محتمل.
لكن الموجة الأعنف والأكثر إثارة للجدل تأتي من الذكاء الاصطناعي، الذي لا يدمر منتجات أو خدمات محددة، بل يهدد فئات كاملة من المهارات البشرية التي كانت تُعتبر حصينة، من البرمجة إلى التصميم الجرافيكي، إلى خدمة العملاء والترجمة، يعيد الذكاء الاصطناعي رسم خريطة سوق العمل بسرعة مذهلة، لكنه في المقابل يفتح آفاقاً هائلة في اكتشاف الأدوية والبحث العلمي والكفاءة الصناعية، مجسداً بوضوح جوهر التدمير الخلّاق، الهدم والبناء في آن واحد، الخسارة والمكسب معاً.
هذه العملية ليست اقتصادية فحسب، بل اجتماعية بامتياز. فكل ابتكار يعيد تشكيل هيكل الوظائف والطبقات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، الثورة الصناعية الأولى قضت على الحرف اليدوية، وأنتجت الطبقة العاملة الصناعية، والثانية أفرزت الطبقة الوسطى المتعلمة، التي أصبحت عماد الاستقرار الاجتماعي. اليوم، الثورة الرقمية تخلق «اقتصاد المنصات»، الذي يوفر مرونة وحرية للبعض، لكنه يحرم الكثيرين من الأمان الوظيفي والحماية الاجتماعية، مثيراً تساؤلات عميقة حول العدالة الاجتماعية ومستقبل العمل والتضامن المجتمعي.
من أهم نتائج نموذج أجيون وهاويت ما سمّياه «فخ عدم النمو»: عندما يتوقع المستثمرون موجة ابتكارات ضخمة قادمة في المستقبل القريب، يحجمون عن الاستثمار اليوم، خوفاً من خسارة أموالهم سريعاً عندما تظهر التقنيات الجديدة. هذا السلوك العقلاني على المستوى الفردي، يؤدي إلى كارثة على المستوى الجماعي: تجمد النشاط البحثي وركود الاقتصاد. هنا تبرز أهمية التدخل الحكومي الذكي والمتوازن.
فالحكومات مطالبة بتحقيق توازن دقيق وصعب، حماية الملكية الفكرية بشكل كافٍ لتشجيع الابتكار وضمان عوائد للمبتكرين، دون السماح باحتكارات دائمة تخنق المنافسة وتعوق التقدم، كما عليها توجيه الاستثمار نحو الابتكارات ذات النفع الاجتماعي الواسع في مجالات الصحة والتعليم والبيئة، لا تلك التي تحقق أرباحاً سريعة فقط. والأهم من ذلك، بناء شبكات أمان اجتماعي قوية، وبرامج إعادة تأهيل فعالة، لمساعدة المتضررين من عملية التدمير على الانتقال إلى المنظومة الجديدة، بدلاً من تركهم يواجهون مصيرهم وحدهم.
تجدر الإشارة إلى أن هذه ثاني جائزة نوبل في موضوع الابتكار خلال سبع سنوات، فقد فاز باول رومر عام 2018 بالجائزة لعمله في جعل الابتكار قراراً اقتصادياً داخلياً، لا عاملاً خارجياً غامضاً. والملاحظ أن الفائزين يُكرمون عن أعمال قديمة نسبياً: ورقة أجيون وهاويت من 1992، ورومر من 1990، والأفكار الأساسية تعود لمنتصف القرن الماضي، لكن هذه الأعمال تتفق جميعها على حقيقة واحدة: المعرفة هي جوهر الاقتصاد الحديث، وهي مورد متجدد لا ينضب، لكنه يطيح بنفسه باستمرار في دورة أبدية من التجدد.
وهكذا، يتضح أن العالم الذي وصفه شومبيتر ليس عالم استقرار وسكون، بل فضاء ديناميكي، تتعاقب فيه موجات التغيير دون توقف. كل ابتكار يمثل ثورة صغيرة تعيد ترتيب الأوراق الاقتصادية والاجتماعية. ومع تسارع وتيرة الابتكار في عصرنا، يصبح السؤال الحقيقي: كيف نتعامل مع هذا التدفق المستمر من التحولات؟ الإجابة لا تكمن في محاولة كبح جماح التقدم أو الحنين إلى الماضي، بل في تطوير قدرتنا الجماعية على التكيف الذكي. علينا أن نبني مجتمعات قادرة على احتضان الابتكار دون التضحية بالعدالة، وأن نصمم سياسات تحول التدمير الخلّاق من تهديد وجودي إلى فرصة للتجديد الشامل، بحيث يكون المستقبل الذي نصنعه أكثر رخاءً وإنصافاً لكل البشر.



