🕊 السلام الذي يولد من الوعي لا من البنادق

✍ م. أحمد محكم
إنّ الحديث عن السلام في السودان لا يجب أن يُختزل في كونه اتفاقًا سياسيًا أو نهايةً لحرب، بل هو في جوهره يقظةُ وعيٍ جمعيٍّ طويل، ونهوضٌ للضمير الإنساني من تحت ركام الألم. فالحرب ليست بندقيةً فقط، بل هي فكرة كامنة في العقول، حين يختلّ ميزان العدل، وتضيع البوصلة الأخلاقية، ويُصبح الوطن ميدانًا لصراع المصالح لا مهبطًا للكرامة والإنسان.
السلام الذي ننشده ليس هدوءًا مؤقتًا بين جولتين من العنف، بل هو ولادة عقلٍ جديدٍ وإنسانٍ جديد، يتصالح مع ذاته قبل أن يطلب التصالح مع الآخرين. فحين يستقر العقل في سلام، تهدأ الجغرافيا بأكملها.
ذلك أن السلام ليس وثيقة تُوقَّع، بل حالة وعيٍ تُبنى، تُهذّب النفوس، وتُطهّر القلوب من الغبن، وتُعيد تعريف معنى الوطن كفضاءٍ للمشاركة لا للمغالبة.
لقد كانت جذور الأزمة السودانية — منذ الاستقلال — نتاج غياب هذا الوعي، لا غياب الاتفاقيات. فالنخب السياسية التي ورثت الدولة من الاستعمار لم تبنِ مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل أعادت إنتاج الاستعلاء في ثوب جديد. ثم جاءت الحركة الإسلامية لتُحكم قبضةً على البلاد عبر هندسةٍ اجتماعيةٍ قسمت الشعب وكسرت نسيجه.
ومع ذلك، ظلّ الشعب السوداني — في أعمق أعماقه — يقاوم بصمته وصبره، ويُخفي تحت الرماد جذوة الوعي التي لم تخمد قط.
إنّ جوهر السلام الذي ننادي به اليوم هو سلام الوعي، سلامٌ يولد من رحم الحركة المجتمعية لا من قاعات التفاوض. فالمزارع في الحقل، والمرأة في الريف، والشاب في الشارع، والمثقف في قلمه، جميعهم كانوا وما زالوا النبض الحقيقي الذي يُعيد للحياة معناها في السودان.
إنهم الذين صاغوا الثورة بعرقهم لا بخطاباتهم، وأثبتوا أن السلام لا يُستورد من الخارج، بل يُزرع في القلوب مثل حبة قمحٍ تنبت من تراب هذا الوطن.
ولذلك، فإنّ الحديث عن “السودان القديم” و”السودان الجديد” لا يكفي لتفسير التحوّل، لأنّ الصراع الحقيقي ليس بين ماضٍ ومستقبل، بل بين وعيٍ راكدٍ ووعيٍ يقظ. نحن لا نحارب الماضي، بل نحاوره ونُعيد قراءته. فكل تجربةٍ مؤلمةٍ في تاريخنا هي معلمٌ من معالم النضج، لا جرحٌ نغلقه ونمضي. السودان الجديد لن يولد من إنكار التاريخ، بل من فهمه وتجاوزه بوعيٍ حرٍّ ومسؤول.
إنّ فلسفة ثورة الفكر وثورة الوعي تقوم على فكرةٍ جوهرية:
أن لا بناء دون فكر، ولا فكر دون حرية، ولا حرية دون وعي.
وحين يتحرر الإنسان من الخوف، يصبح الوطن مملكةً للعقل لا للمغامرين. فالدولة التي نحلم بها ليست دولة السلاح ولا الحزب، بل دولة الفكرة، دولة القانون والضمير، التي يُقاس فيها المجد بقدر ما تُصان كرامة الإنسان فيها.
السلام الذي نحلم به ليس غياب الحرب، بل حضور الإنسان.
هو السلام الذي يجعل من الاختلاف ثراءً لا تهديدًا، ومن التنوع جمالًا لا انقسامًا، ومن الحرية مسؤوليةً لا فوضى.
ذلك السلام الذي لا تفرضه البنادق، بل تُنطقه القلوب الواعية حين تكتشف ذاتها في مرآة الحقيقة.
إنّ السودان اليوم يقف على حافة التحول العظيم، بين موت الذاكرة وانبعاثها، بين سكون الخوف وصحوة الوعي. وكلما اشتدّت العتمة، اقترب الفجر.
فما نحتاجه ليس مزيدًا من البنادق، بل مزيدًا من الوعي.
ليس مزيدًا من القادة، بل مزيدًا من الإنسان.
وستظلّ ثورة الفكر وثورة الوعي تمضي كنبضٍ هادئٍ في صدر الوطن، تؤمن أن الصمود لا يكون بالسلاح، بل بالفكرة التي لا تموت، وبالضمير الذي لا يساوم، وبالوعي الذي لا يُهزم.



