السودان: السلام المستدام والتعافى الوطني

فايز أبو البشر
منذ اندلاع الحرب التي اجتاحت جغرافية الدولة السودانية — فعلياً في بعض المناطق، ومجازاً في غيرها التي لم تصلها بعد لكنها تعاني من ظلالها السالبة — لم يعد خافياً على أحد من الذي بدأها. فلا حاجة للدخول في مماحكات عقيمة أو جدل بيزنطي حول سؤال «من الأول: الدجاجة أم البيضة»، فالحقيقة باتت واضحة كالشمس في كبد السماء أن الحركة الإسلامية السودانية (الكيزان)، التي ظلت مهيمنة على الجيش والأجهزة الأمنية ومفاصل الدولة منذ انقلابها في 30 يونيو 1989، هي من أشعلت نار هذه الحرب المدمرة.
ورغم محاولات التضليل التي تمارسها آلة إعلام النظام البائد وفلوله وبعض القنوات الإقليمية الموالية لتنظيم الإخوان المسلمين، فإن الهدف الأساس من تلك الحملات هو صرف أنظار الرأي العام عن الفاعل الحقيقي، وتعبئة الشعب ضد القوى المدنية الممثلة في تحالف «صمود»، عبر اتهامها زوراً بالتحالف مع قوات الدعم السريع. صحيح أن الدعم السريع يمتلك واجهة سياسية تمثله – وهي “تأسيس” – تضم عدداً من القوى والفاعلين المدنيين، إلا أن ذلك لا يعني أن جميع القوى المدنية منحازة إليه. فـ«صمود» بريئة من تلك التهمة، وستظل عصية على التبعية والانحياز لأي جهة غير الوطن والمواطن. كانت وما زالت تقف في منزلة بين المنزلتين، وأولويتها إنهاء الحرب دون شروط مسبقة، بوسائل النضال المدني السلمي المدعوم بالمنطق والحجة، لأن الحرب – في جوهرها – وسيلة العاجز والمعزول عن الشارع لتحقيق أهدافه السياسية.
إن شيطنة القوى المدنية ليست سوى مناورة من الإسلاميين لإقصائها، فهم يدركون أن الصراع في جوهره سياسي يتعلق بإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والشفافية والمساواة، وأن نهايته الحتمية ستكون على طاولة التفاوض والإجماع الوطني. ولذلك يسعى الإسلاميون لاستباق مرحلة ما بعد الحرب باستخدام العنف اللفظي والسلطوي لتصفية خصومهم سياسياً وجسدياً، تمهيداً للعودة إلى الحكم من «الشباك» بعد أن طردهم الشعب بثورة ديسمبر 2018 من الباب.
تدرك القوى المدنية ومنظمات المجتمع المدني طبيعة هذا الصراع، وتعمل على تفنيد سردية الكيزان الزائفة، التي تُسخَّر لها شبكات إعلامية عربية طالما وقفت ضد قيم الحرية والديمقراطية، وروَّجت لصورة مضلِّلة مفادها أن الشعب السوداني يقف مع الجيش فيما يُسمَّى «حرب الكرامة». غير أن الواقع يؤكد أن الأغلبية الصامتة من الشعب تقف ضد الحرب وتدعو إلى إعادة الاستقرار، لأنها تدرك أن ما يسمُّونه حرب الكرامة ليس سوى حرب استرداد كرامة الكيزان بعد أن أذلهم الشعب بثورته المجيدة.
هذه الحرب ليست حرب الوطن، بل حربهم هم، ويجب أن تكون آخر حروب السودان. غير أن تحقيق السلام مرهون بقدرة القوى المدنية على توحيد صفوفها، والنزول إلى الميدان للالتحام بالناس، والاستماع إلى صوت الشارع، وحمل مطالبه الحقيقية بوقف الحرب فوراً وفتح الممرات الإنسانية لإغاثة المتضررين.
ولكي لا تتكرر المأساة، يجب تشكيل لجنة دولية للتحقيق في أسباب الحرب وجرائمها، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية، ومحاسبة المسؤولين أمام المحكمة الجنائية الدولية. كما ينبغي إنشاء لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة تعزز العدالة الترميمية، لأن السلام المستدام لا يتحقق من دون عدالة، ولا عدالة مع الإفلات من العقاب.
الحقيقة المؤلمة أن أزمة السودان لا تكمن في الإسلاميين أو الأحزاب وحدهم، بل في الجيش نفسه، الذي تحوّل منذ الاستقلال إلى أكبر حزب سياسي في البلاد. فقد حكم السودان نحو 58 عاماً من أصل 69 عاماً منذ الاستقلال، ونفَّذ أكثر من 37 انقلاباً، نجح منها أربعة فقط (1958، 1969، 1989، 2021). وفي كل مرة، كان الجيش يفتح الباب لقوى سياسية تمتطيه للوصول إلى السلطة، ثم يزيحها ليقطف ثمار ما زرعته تلك القوى المتهورة. حتى نظام الإنقاذ، الذي امتد لأكثر من ثلاثة عقود، لم يسلم من مقصلة الجيش، غير أن الإسلاميين نجحوا بدهائهم في دمج الحزب بالجيش والدولة، فذابت الحدود بين التنظيم والمؤسسة العسكرية. وعندما أطاحت ثورة ديسمبر 2018م بنظامهم، لم يستسلم الجيش «المكوزن» لإرادة الشعب، بل سعى إلى إجهاض التحول المدني عبر انقلاب أكتوبر 2021، ثم بإشعال حرب 15 أبريل 2023 بذريعة دمج الدعم السريع. كانت الخطة أن تُحسم المعركة خلال 72 ساعة في أسوأ تقدير، لكن إرادة الله كانت أقوى من مكرهم: «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين».
واليوم، بعد أكثر من ثلاثين شهراً من الدمار، وبرغم الجهود الإقليمية والدولية لوقف الحرب، ما زال الكيزان وجيشهم يرسلون إشارات متضاربة تعكس تعدد مراكز القرار داخل المؤسسة العسكرية، واتفاقها فقط على استمرار الحرب، رغم علمهم أنه لا منتصر فيها، وأن الوطن ينزف كل يوم. أما وفود التفاوض التي تُرسل إلى واشنطن أو غيرها، فليست سوى مناورات لكسب الوقت والتحضير لجولة جديدة من الحرب على جثة الوطن المنهكة.
وسواء نجحت جهود الرباعية أو فشلت، فإن بناء السلام المستدام في السودان يبدأ بالاعتراف بجذور الأزمة البنيوية في مؤسسات الدولة، وإعادة تأسيسها على رؤية وطنية شاملة. ويتطلب ذلك إصلاح الجيش والأجهزة الأمنية على أسس مهنية خالصة، تعكس التنوع الإثني والجغرافي للشعب السوداني، وتخضع بالكامل للدستور المدني. بمعنى أن يكون الجيش والمؤسسات الأخرى فسيفساء حقيقية تعكس تنوّع السودان وغناه الثقافي والجهوي، لا أن تكون مؤسسات الدولة «ضُبّ راسه أحمر» تحتكر فيها فئات قليلة من أفراد الشعب السلاح والسلطة والخدمة المدنية. عندها فقط يمكن أن يرى كل سوداني نفسه في جيشه ومؤسساته، وأن ينهض الوطن من رماده ليبدأ رحلة التعافي الوطني الحقيقي نحو دولة مدنية عادلة، يسودها القانون، وتُمجَّد فيها اللساتك رمزاً للسلمية والمقاومة الشعبية، ويعلو فيها صوت المواطن على صوت البندقية التي لم نرَ منها مجداً طوال زهاء ثمانيةٍ وخمسين عاماً من حكمها العضوض.



