مقالات وآراء

السودان.. تاريخ طويل من التهميش : مؤامرة أم قدر جغرافي

يظل السودان، رغم موقعه الجغرافي الاستراتيجي وثرواته الطبيعية الهائلة، واحدًا من أكثر بلدان المنطقة تعرضًا للتهميش وسوء الإدارة. بلدٌ يمتد من سواحل البحر الأحمر شرقًا حتى حدود الصحراء الكبرى غربًا، ويزخر بموارد طبيعية نادرة تشمل الذهب والنفط واليورانيوم والصمغ العربي، فضلًا عن تربة خصبة ومياه غزيرة. كل تلك المقومات كان يفترض أن تجعل منه دولة فاعلة في محيطها الإقليمي، إلا أن مسار تاريخه الحديث سار في الاتجاه المعاكس.

” جذور التهميش التاريخي ”
لا يزال السؤال مطروحًا هل كان تراجع السودان نتيجة تراكمات داخلية فقط، أم أن هناك عوامل خارجية أسهمت في صياغة هذا الواقع؟ يشير بعض الباحثين إلى أن ما أعقب قمة الخرطوم عام 1967 قمة “اللاءات الثلاث” الشهيرة : لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل — مثّل نقطة تحوّل في النظرة الإقليمية والدولية إلى السودان. فالقمة، التي رفعت شعار الصمود العربي بعد هزيمة 1967، ربما جعلت من السودان بلدًا أقل ترحيبًا في دوائر السياسة العالمية، ودفعت لاحقًا إلى إبعاده عن بعض مسارات التعاون الإقليمي والدولي.
لكن من غير المنطقي اختزال أزمة السودان في “نظرية مؤامرة” واحدة. فالدولة التي تمتلك عمقًا استراتيجيًا لمصر والعالم العربي، ومخزونًا بشريًا ضخمًا، واجهت أيضًا تحديات ذاتية مزمنة حالت دون توظيف هذه الإمكانات.

” مسؤولية الداخل ”
يُجمع كثير من المفكرين السودانيين على أن التدهور لم يكن فقط بفعل عوامل خارجية، بل بسبب إخفاقات النخب الحاكمة في إدارة التنوع وبناء مؤسسات قادرة على تحقيق التنمية.
وقد عبّر السياسي والمفكر السوداني المعروف الدكتور منصور خالد عن هذه الفكرة بوضوح في كتابه النخبة السودانية وإدمان الفشل، حيث رأى أن النخب السودانية، بمختلف توجهاتها، أعادت إنتاج أخطاء الماضي، وأن الفشل تحول إلى “عادة سياسية” متوارثة، لا إلى تجربة تُصحَّح أو تُبنى عليها الدروس .. وقد استخدم منصور خالد مشارط التشريح بعناية فائقة في تشريح الحالة السياسية السودانية منذ عقود من الزمان .

” أزمة هوية ووعي ”
وإلى جانب إخفاق النخب، برزت إشكالية الهوية الوطنية كأحد عوامل الارتباك البنيوي في الدولة السودانية. فالتجاذب بين الانتماء العربي والبعد الأفريقي شكّل حالة من الغموض الثقافي والسياسي، انعكست على بناء الدولة الحديثة، وأضعفت شعور الانتماء الوطني لصالح الولاءات الجهوية والقبلية.وقد أسهم هذا الارتباك، إلى حدٍّ بعيد، في إضعاف الاستقرار الداخلي، وفتح الباب لتدخلات خارجية استثمرت في الانقسامات الداخلية.

” السودان والحرب المنسية ”
منذ أكثر من ثلاث سنوات، يخوض السودان حربًا دامية بين الجيش وقوات الدعم السريع التي تمردت عليه، تسببت في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في القارة الأفريقية. ومع ذلك، لم تحظ هذه الحرب بالاهتمام الدولي أو التغطية الإعلامية التي تستحقها، مقارنةً بأزمات أخرى مثل أوكرانيا أو غزة.هذا التجاهل الدولي يثير تساؤلات حول موقع السودان في خارطة الأولويات الإقليمية، وحول ما إذا كان هذا الغياب نتيجة إهمال عارض أم جزءًا من حساباتٍ أوسع.

” خاتمة ”
يبقى السودان حالة معقدة يصعب اختزالها في معادلة المؤامرة أو القدر. فالتاريخ يكشف عن مزيجٍ من التقصير الداخلي والضغوط الخارجية التي تراكمت عبر عقود؛لكن ما لا خلاف عليه هو أن مستقبل السودان مرهون بقدرته على إعادة بناء مؤسساته، وتوحيد رؤيته لهويته ودوره في الإقليم؛ فبلد يمتلك كل هذه الثروات لا يمكن أن يبقى أسير الأزمات إلى الأبد، ما لم يقرر هو نفسه أن يتحرر منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..