مقالات وآراء

الوعي و الاستقرار.. من سريلانكا إلى الأوروغواي و استشراف آفاق السودان الجديد

✍️ د. أمجد إبراهيم سلمان

في نهاية يونيو من عام ٢٠٢٤، التقيت في مطار حمد الدولي في قطر رجلًا أورغوايانيًا في غاية الهدوء والعمق ، متوسط القامة نحيل القد ، يشعّ من حديثه ذلك التوازن النادر بين الواقعية والحلم. كان اسمه السيد فرناندو ، و كان يعمل كخبير مالي في مجال الضرائب في وزارة المالية في الأوروغواي و هي بلد صغير نسبيا في جنوب أمريكا الجنوبية يقع بين البرازيل و الإرجنتين ، وفي تقديري أنه كان من أصول أوروبية يُرجَّح أنها إسبانية.

كان السيد فرناندو عائدًا من مدينة كولومبو، عاصمة سريلانكا، بعد مهمةٍ لعدة أشهر ضمن برنامجٍ للأمم المتحدة تتعلق بالإصلاح الضريبي لتدريب كبار الموظفين السريلانكيين على تطوير التحصيل الضريبي لضمان التوازن الاقتصادي ، و ذلك لمساعدة سريلانكا على الاستقرار السياسي بعد ثورة شبابية في العام 2022 أطاحت برئيس البلاد السيد ماهيندا راجاباكسا الذي أدت سياساته و سياسات سلفه الإقتصادية إلى إفلاس البلاد تماما ، بعد فترة انتقالية قصيرة تمت انتخابات ديمقراطية أدت لانتخاب حكومة مدنية عبر أعادة انتخاب رئيس المرحلة الانتقالية المستقل رانيل ويكيرمينسينغه في سبتمبر من العام 2024.

جلسنا مع السيد فرناندو في صالة الإنتظار نتبادل أطراف الحديث عن العدالة الضريبية، والسياسات المالية، ودور الدولة في حماية الفقراء دون الإخلال بالاستقرار المالي و السياسي. ذلك الحوار القصير ظلّ عالقًا في ذهني أيّامًا طويلة، وكأن القدر كان يُمهّد لي ما هو أعمق. فبعد عشرة أيام فقط، قادتني الصدفة المحضة إلى زيارة مدينة مونتيفيديو، عاصمة الأوروغواي، لأجد نفسي أعيش على أرض الواقع ما كنت أسمعه من فرناندو عن بلاده ، تلك الجمهورية الصغيرة ذات ال 3.5 مليون مواطنا التي جعلت من الاستقرار فنًّا سياسيًا، ومن الاعتدال نهجًا وطنيًا.

وعي الناخب الأوروغواياني… انتصار على الشعبوية ، لغرابة الأمر لفت نظري في نوفمبر من العام 2024 مقالاً في جريدة الايكونوميست عن الانتخابات في تلك البلاد ، حيث كانت الأوروغواي على موعد مع انتخابات رئاسية حملت للعالم درسًا في النضج السياسي. اختار الشعب هناك السيد ياماندو أورسي، مرشّح حزب الجبهة العريضة اليساري، رئيسًا للبلاد بعد منافسةٍ متقاربة مع ألفارو ديلغادو، مرشّح التيار المحافظ. غير أن اللافت لم يكن الفائز بقدر ما كان اختيار الناخب الأوروغواياني طريق العقل و ليس طريق العاطفة. فقد خاض المرشحان حملتيهما بخطابٍ معتدل، بعيداً عن الصخب الشعبوي الذي يجتاح أغلب ديمقراطيات العالم. لم يعد المواطن هناك يبحث عمّن يَعِده بالمستحيل، بل عمّن يضمن له ألا يعبث بالمنجز. خاصة و أن تجربة الارجنتين على الضفة الأخرى من نهر لابلاتا مع التضخم المنفلت جعلت مواطني الأوروغواي أكثر حصافة و عقلانية ، بحيث لم يستجيبوا لوعود تخفيضات ضريبية وعدهم بها مرشح المحافظين السيد ديلغادو ، رغم أن انتخابه كان يعني زيادة في دخل المواطنين الشهري بالتخفيضات الضريبية ، لكن الشعب آثر أن يدفع ضرائبا أعلى مهراً للاستقرار السياسي فانتخب المرشح ياماندو أورسي الذي ترك مهنة التدريس ليقود البلاد ، وفي عالمٍ تتسابق فيه الأصوات على المبالغة، كان وعي الناخب الأوروغواياني أشبه بنغمةٍ هادئة وسط جلبة السياسة، تُذكّر بأنّ الديمقراطية ليست منبرًا للصراخ، بل ميدانًا للعقل ، و هي الممارسة الوحيدة في السلطة التي تسمح للشعب بالتطور الفكري و السياسي و اختيار من يمثلونه بحق و يعبرون عن أشواقه في العيش الكريم باقتدار.

الاستقرار… فضيلة الجنوب حين يُحسن استخدامها: لقد تعلّمت من السيد فرناندو، ومن مشاهداتي في مونتيفيديو، أنَّ الاستقرار ليس نقيض الطموح بل شرطه الأول. فالأوروغواي، رغم صِغَر حجمها، استطاعت أن تصنع نموذجًا فريدًا في الحوكمة والنزاهة، وأن تكون من بين أكثر الدول ثقةً في مؤسساتها على مستوى القارة اللاتينية ، و يعتبر دخل الفرد فيها من بين الأعلى في تلك القارة. غير أنّ هذا الهدوء السياسي والاقتصادي، وإن كان نعمةً كبرى، بدأ يُظهر حدوده. فالبلاد، بعد أن أنهت عقدًا من الازدهار (2005–2014)، دخلت في حالة من الركود الهادئ. تراجع النمو، وارتفعت معدلات الجريمة، وجمدت إصلاحات التعليم، ومع ذلك ظلّ الخطاب السياسي يكرر نغمة “الاستقرار أولًا”. إنّها مفارقة الأوطان الناضجة، حين يكون خوفها من الفوضى أكبر من شجاعتها على التغيير.

تعاون الجنوب… الطريق إلى نهضة متوازنة: في حديثنا عن التعاون بين دول الجنوب، كان السيد فرناندو يرى أنَّ الدول النامية تستطيع أن تبني شراكاتها من داخل تجربتها لا من مظلة الوصاية الدولية. لقد أيقنتُ من خلاله أنّ التعاون بين هذه الدول لا يعني تبادل المساعدات فحسب، بل تبادل الخبرة والكرامة. فحين تلتقى تجارب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية على أسس من العدالة والاحترام، يمكن للعالم أن يرى شكلًا جديدًا من النهضة: نهضةٍ لا تقوم على الاستدانة، بل على المشاركة. وهكذا، يصبح لقاءٌ عابرٌ في مطارٍ دوليٍّ، ورحلةٌ قصيرة إلى مونتيفيديو، تأملًا في معنى أعمق: أنَّ التنمية ليست وصفةً جاهزة، بل وعيٌ يتشكّل حين تتعاون العقول قبل الحكومات.

لقد تعلّمت من الأوروغواي أنَّ الديمقراطية الحقّة لا تُقاس بضجيج الحملات، بل برصانة الناخبين. وأنّ الاعتدال، في جوهره، ليس ضعفًا في الموقف بل نضجًا في الرؤية. كما تعلّمت أنَّ الجنوب ، حين يُصغي إلى ذاته ويتعاون مع أشباهه، يمكنه أن يخلق نموذجًا إنسانيًا واقتصاديًا خاصًا به، لا يشبه شمالًا متعاليًا ولا شرقًا مغلقًا. في مونتيفيديو، أدركت أنَّ الوعي هو أعظم ثروةٍ تملكها الأمم، وأنَّ الاستقرار الحقيقي ليس في سكون الواقع، بل في حركة الفكر نحو مستقبلٍ آمنٍ لا يفقد روحه.

نمر حالياً في بلدنا السودان بأزمة هي الأكبر في تاريخها المعاصر أزمة وجودية تهدد بقاء السودان نفسه كدولة بين الأمم ، يقيني أن الأزمات الكبرى في حيوات الشعوب تولد حلولاً كبرى و تزيد وعي المواطنين بأهمية هذه الرقعة الجغرافية التي نسميها الوطن ، لسنوات طويلة كانت حروب السودان تدور في الهامش و لا يتأثر بها سكان مركز السلطة إلا لماماً ، حالياً انطلقت شرارة الحرب الأخيرة من عاصمة البلاد لتخلق واقعا جديداً وتشكل أكبر أزمة نزوح داخلي و خارجي في العالم حالياً ، رغم أن المشهد يبدو قاتماً خاصة بسيطرة الأطراف العسكرية على المشهد السياسي و بغياب كامل للمدنيين أصحاب المصلحة الحقيقية في الانتقال المدني الديمقراطي ، إلا أن الضغوط العالمية تتزايد على الجهات الداعمة للحرب لايقافها.

تبقى جزئية مهمة جداً وهي توافق القوى المدنية على برنامج حد أدنى و التنسيق فيما بينها لتقديم قيادات فوق مستوى الشبهات لقيادة المرحلة الإنتقالية التي ستأتي قريباً لا محالة ، هذه القيادات يجب أن تمهد لانتخابات ديمقراطية خلال فترة زمنية محددة و لنقل سنتان إلى ثلاثة سنوات ، تكون فيها القوى السياسية قد نظمت نفسها و أن تخضع هي نفسها لبرامج تدريبية مكثفة من الأمم المتحدة و الدول الصديقة لتجويد الحوكمة و اشاعة الديمقراطية داخل تلك الأحزاب على غرار ما حدث في سريلانكا في بداية المقال ، إذ أنه لن تستقر أية ديمقراطية ما لم تكون الأحزاب السياسية هي ديمقراطية في نفسها و يكون تسنم القيادة داخلها وفق أسس و نظم واضحة و دقيقة ، يعتقد الكثيرون أن هذا حلماً بعيد المنال ، لكن بعد الاطلاع على تجارب دول عديدة خاضت في طريق الآلام هذا ، نرى أن النهوض الاقتصادي و الاستقرار السياسي يكون في أوجه بعد الأزمات العظيمة التي تواجه الأمم ، مثل ما يحدث لنا في سودان اليوم .. فهلا شمّرنا عن سواعدنا للعمل لاستشراف هذا المستقبل المشرق الذي ينتظر بلادنا.

✍️ د. أمجد إبراهيم سلمان
25 أكتوبر 2025

Whatsapp 0031642427913
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..