مقالات وآراء

يدعون للحرب… ويستنكرون نتائجها: مفارقة سودانية مؤلمة

 

أواب عزام البوشي

في مشهدٍ لا يخلو من التناقض المرير، نسمع يوميًا من يدعو إلى استمرار الحرب في السودان باسم “الكرامة”، ثم يذرف الدموع ذاتها حين يرى ضحاياها أو يسمع عن انتهاكاتها المروعة. إنها مفارقة سودانية مؤلمة، تكشف عن عمق الأزمة في بنية الوعي الجمعي التي صاغتها عقود من التزييف المتعمد، حتى صار البعض يرى في الحرب خلاصًا، وفي السلام ضعفًا، وفي القتل طريقًا إلى “النصر”.
لقد نجح الإسلاميون في تحويل الحرب إلى قيمة رمزية مغلّفة بشعارات الفضيلة والوطنية، فصارت تُقدَّم للناس كمعركة وجود لا كصراع على السلطة، وكأن القتال وحده يمكن أن يُعيد للدولة هيبتها. استغلوا في ذلك هشاشة الوعي العام، واستثمروا في جهلٍ صُنع بعناية على مدى ثلاثين عامًا من حكم الإنقاذ، حيث جرى تفريغ مفهوم الكرامة من معناه الإنساني والأخلاقي، ليُختزل في السلاح والموت.
إن الذين يدعون اليوم إلى الحرب، هم ذاتهم الذين ساهموا بالأمس في بناء بنية فكرية تجعل من الجهل سياسة، ومن الشك عقيدة. لقد تم تربية أجيالٍ كاملة على “الجهل الموجّه”، لا بوصفه غيابًا للمعرفة، بل بوصفه معرفةً مُنتقاة تخدم غرض السلطة. قيل لهم إن الحرب قدر، وإن “الطاعة” طريق النجاة، وإن كل صوتٍ ضد الحرب خيانة. وهكذا تشكّل وعيٌ مشوّه يرى الدم واجبًا، والاختلاف تهديدًا، والسلام مؤامرة.والمفارقة المؤلمة أن من يرفضون اليوم انتهاكات الحرب، هم في الحقيقة ضحايا خطابها، لأنهم لم يدركوا أن الانتهاك ليس عرضًا من أعراض الحرب، بل جوهرها. فكل حربٍ أهلية تبدأ بشعارٍ نبيل وتنتهي بمأساة جماعية، وما يحدث في السودان ليس “نهاية الحرب” كما يظن البعض، بل بدايتها الفعلية حربٌ تتسع كل يوم، بلا أفق، بلا مشروع، بلا رحمة.
إن الإسلاميين الذين صاغوا هذا الوعي الزائف لا يرون في الحرب مأساة، بل امتحانًا للعقيدة، وكأن الدم يصبح طاهرًا حين يُسفك باسم “الهوية” أو “الجهاد”. لكن أي جهادٍ هذا؟ ومن هو العدو؟ هل من الجهاد أن يُقتل السوداني أخاه السوداني؟ أن يُهدم البيت فوق ساكنيه؟ أن تُشرّد المدن ويُفقد الوطن ذاته؟ لا جهاد في حربٍ كهذه، ولا كرامة تُبنى على ركام البشر.ما يحتاجه السودان اليوم ليس مزيدًا من القتال، بل صحوة وعيٍ شاملة، تُعيد تعريف الكرامة في معناها الحقيقي: أن نحفظ حياة الإنسان، لا أن نبرر قتله. أن نبحث عن الحقيقة . أن نسأل من المستفيد من استمرار هذه النار، لا من الذي أشعلها فقط.إن الخروج من هذه المفارقة يبدأ حين ندرك أن الحرب لا تصنع وعيًا، بل تدمّره. وأن من يزرع الجهل باسم الدين أو الوطنية، لا يفعل سوى أن يؤسس لدوامةٍ جديدة من الموت. الوعي وحده هو المعركة الحقيقية، والجهل هو العدو الأكبر.حين يستيقظ الشعب من غفلته، ويكفّ عن ترديد ما يُلقَّن له دون وعي، ستنتهي الحرب دون مفاوضات، لأن الشعوب لا تُهزم إلا حين تجهل. أما حين تعرف، فإن السلاح يسقط من تلقاء نفسه، ويبدأ الوطن في استعادة صوته المفقود.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..