أهم الأخبار والمقالات

الإسلاميون وصناعة الخراب السوداني.. هل تكونُ الفاشرُ المسمارَ الأخيرَ في نعشِ الدولة؟

م. معاوية ماجد

في قلب أرضٍ لم تعرف النوم منذ قرنٍ من الدم، حيث النيل يشقّها كجرحٍ قديمٍ لا يندمل، وحيث تُصلّي الأرض بالتراب على أبنائها كلّ صباح، يقف السودان اليوم كجسدٍ يتهدّمه التعب، يئنّ ولا يسمعه أحد.
هنا، في هذا الوطن الذي كان مرجلاً للحضارات وملتقىً للأديان والثقافات، صار صوت الرصاص أعلى من الأذان، وصوت الجوع أعلى من الشعر، وصوت الخيبة أعلى من الحلم.

الفاشر  تلك المدينة التي كانت قلب دارفور النابض  تبدو الآن كخرقٍ في درع السودان الممزّق، رايةً من رمادٍ ترفرف على أسوار الانكسار.
منها يتسرّب الضوء الأخير، ومنها يبدأ العمى الكبير.
تحتها تتقاطع الأقدار: دمُ الأبرياء مع طموح الساسة، وحلمُ الدولة مع شهية القوى الإقليمية.
لم تعد الحرب حربَ مواقع، بل صراعًا على الروح السودانية نفسها — من يملك حقّ تشكيلها، ومن يملك رخصة بيعها.

إنه وطنٌ عظيم أُقيم على وعدٍ بالمستحيل، لكنه انكسر على صخرة الواقع.
وطنٌ صاغ تاريخه من عرق النيل ومن وهج النوبة ومن صبر دارفور والشرق والجنوب، ثم تركه حكّامه كجثةٍ على قارعة الجغرافيا.
كلُّ ذرةٍ فيه تنزف من أثر خيانةٍ قديمة: خيانة الفكر حين استُبدل بالسلطة، وخيانة السلطة حين تلطّخت باسم الدين.

اليوم، تحت عباءة «الإصلاح» تُدار الحروب، وتحت شعار «التوزيع لا التقسيم» يُعاد رسم الجغرافيا بخناجر الطموح الإقليمي.
كلّ يدٍ تمتدّ إلى السودان تحمل معها سكيناً صغيرة، تقتطع جزءاً باسم المصلحة أو الأمن أو الشراكة.
وفيما تتكاثر الأيدي على الجسد، يبقى الوطن وحيداً — وطنٌ يطلب من أبنائه الرحمة، لا الولاء، ومن خصومه الترفّق، لا الانسحاب.

وفي هذا المشهد الغائم، تتحرّك الحركة الإسلامية كظلٍّ ثقيلٍ في ذاكرة البلاد، تتبدّل وجوهها لكن تبقى روحها ذاتها:
روح التمكين والاحتكار، روح الخوف من الحرية.
وبينما تشتبك القوى الإقليمية والدولية على موائد الذهب والنفوذ، تسقط المدن الواحدة تلو الأخرى، كما لو أن الخراب يسير بخطى ثابتة نحو مركزه الأخير.
والفاشر ليست مدينةً تسقط، بل علامةٌ على انهيار وطنٍ بكامله — وطنٍ يُعاد توزيعه لا تقسيمه، يُستنزف لا يُحتل، ويُقتل كلّ يومٍ باسم خلاصٍ جديد.

حين تسلّمت الحركة الإسلامية في السودان زمام الحكم في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، كانت تحمل مشروعاً فكرياً يربط الإسلام بالدولة، سعياً لإعادة بناء الهوية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
لكن ما حصل أن هذه الحركة، عبر حزبها وسلطتها، توغّلت في مؤسسات الدولة، وأسّست لنخبة أمنية وسياسية مهيمنة، طغت عليها الفساد والمحسوبية.
أن «ما بدأ كمشروع حضاري انتهى إلى شبكة احتكار وثروات وتوزيع مناصب» تحت راية الإسلام السياسي.
وبهذا، فقدت الدولة المركزية قدرتها على أن تكون جامعاً ومحمياً، وأصبحت محطّة للتجاذب بين قوى داخلية وخارجية.

لقد خلقت الحركة الإسلامية منظومةً قائمة على الولاء لا الكفاءة، على الشعارات لا القيم، وفتحت أبواب الخدمة المدنية والجيش والاقتصاد للموالين دون سواهم.
وحين أُنهكت الدولة، كان لا بدّ من «ذراعٍ جديدة» تحميها، فصنعت قوات الدعم السريع — ذلك الوحش الذي تربّى في حجرها ثم تمرّد عليها.
كانت اليد التي غذّته تبحث عن البقاء، فانقلب السلاح من حارسٍ إلى خصمٍ، ومن أداةٍ للتمكين إلى كابوسٍ للسلطة نفسها.

حين اندلع الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في أبريل 2023، لم يكن الأمر مجرّد اشتباكٍ على رتبة أو موقع، بل صراعاً على السيطرة على الدولة ومفاصلها الأمنية والاقتصادية.
هنا دخلت القوى الإقليمية:
الإمارات وجدت في الدعم السريع شريكاً يتيح لها النفوذ في منطقة حيوية على مفترق الشرق الأوسط وأفريقيا، ونافذةً على الذهب واليورانيوم والثروات التي تختبئ تحت ركام الحرب.
وفق تقارير دولية، بينها صحيفة لوموند الفرنسية، موّلت الإمارات شبكات الدعم السريع ومدّته بالعتاد والذخائر عبر قنواتٍ غير شفّافة مقابل تدفق الذهب الخام.

إسرائيل، عبر مسار التطبيع الذي بدأ عامي 2020 و2021، دخلت المشهد عبر البعد الأمني والاستخباراتي، لتوسيع رقعتها في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

وهكذا، صار السودان ساحةً لتقاطعات المصالح أكثر مما هو دولة تبحث عن خلاصها.
وفي خضمّ هذا الخراب، بقيت الحركة الإسلامية — وإن تراجعت في الشكل — فاعلاً خفياً في الداخل، تحرّك بعض الخيوط وتستثمر في الفوضى، تماماً كما فعلت من قبل حين صنعت أدواتها ثم أنكرتها.

ثم جاءت الفاشر…
مدينةٌ كانت يوماً رمزاً لتعايشٍ هشّ، باتت اليوم حصناً تحت الحصار.
قرابة ثمانية عشر شهراً من الجوع والقتل والانتظار، أكثر من ربع مليون مدني محاصرون بين نيران الجيش والدعم السريع، والطائرات المسيّرة تحوم كغربانٍ فوق الحقول.
يُدفن الموتى في الليل بلا أكفان، وتُستبدل الأطعمة بأعلاف الحيوان، حتى صار البقاء نفسه شكلاً من المقاومة.

سقوط الفاشر، يمثّل تحوّلاً مفصليًا:
سيطرة شبه كاملة لقوات الدعم السريع على دارفور، وفتح خطوط إمداد نحو ليبيا وتشاد، وتحويل الإقليم إلى منطقة نفوذٍ موازية لحكومة الخرطوم.
ومن هنا، يتجلّى الخطر الأكبر: ليس تقسيم السودان بحدوده الرسمية، بل توزيع النفوذ وإذلال الدولة وتحويل مواطنيها إلى رهائن في لعبةٍ أكبر منهم.

الآن، في هذا العراء الذي اسمه السودان، يقف الناس حفاةً من الأمل، عراةً من الحماية، يتقاسمون فتات الوطن كما يتقاسم الغربان الجثث.
الخرطوم التي كانت تُعرف بـ«عروس النيلين» صارت رماداً يطفو فوق الماء، والفاشر التي كانت مرقد الملوك تحوّلت إلى مرقدٍ للأمة نفسها.

الحركة الإسلامية التي بشّرت بـ«دولة الشريعة» خلّفت دولة الشقاق؛ علّمت الناس النفاق باسم الإيمان، وتوجت أبناءها بالذهب المسروق والدم المسفوح. أبناء الأمس الذين قاتلوا باسمها، اليوم يقتتلون على إرثها، كلٌّ يحمل رايةً ملطّخةً بالشعار ذاته: *الحق معنا*. أما الخارج — من الإمارات إلى إسرائيل إلى روسيا — فجلس على الأطلال، يزن الخراب بالذهب، ويقيس النفوذ بمدى اتّساع الجوع والدمار.

**ضميرًا يهمس في الأذن المثقلة بالدم:** إلى الحركة الإسلامية وأفعالها — إن بقي فيكم ضمير حيّ، احملوا مسؤولية ما ألحقتموه بالوطن وابدؤوا بالتعويض والاعتذار والإنقاذ. واستحوا على تفاعلكم، وانسحبوا من الساحة السياسية، فكما قال أحد الذين كانوا منكم: *«الحركة الإسلامية استنفدت أغراضها في الحكم»*، **ولكنها — ويا للأسف — لم تستنفد أغراضها من النهب الممنهج**.

فلنقف إذن، ولو على ركام الفاشر، ولنهتف: كفى باسم الله ما يُرتكب باسم الله، كفى باسم الوطن ما يُباع من الوطن. ولنبدأ من حيث انتهى الخراب — من وعيٍ جديدٍ يعلن أن السودان لا يحتاج مخلّصين جددًا، بل **ضميراً يفيق من غيبوبته**، ضميراً يهمس في الأذن المثقلة بالدم:
إن لم تنقذوا ما تبقّى من الوطن، فسينقذ الوطن نفسه منكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..