مقالات وآراء

حين يتحدث الباطل بلغة التهديد والشتيمة: رد على أدوات الإرهاب الفكري وأصوات الخراب

محمد يوسف

في هذه الحرب المستمرة منتصف ابريل 2023، تتهاوى القيم وتختلط الحقائق، وتخرج إلى السطح وجوه الظلام، تتحدث بلغة القذارة وتختبئ خلف التهديدات والشتائم، كأنها تظن أن التهديد والشتيمة سلاح، وأن السفاهة منطق، ولكن الحقيقة الثابتة هي أن كل تهديد وكل كلمة بذيئة يطلقها هؤلاء السفهاء، لا تهين إلا صاحبها، ولا تصيب إلا مشروعهم المتعفن الذي يقتات على الكذب والنفاق والتهديد والتخويف.
قبل يومين، كتبت مقالاً بعنوان “في وجه آلة العنف: قصة صمود في مواجهة العنف والتهديد”، تناولت فيه مأساة صديقي الناشط (أ.م.ع)، الذي يتعرض لحملة تهديدات بشعة تستهدف حياته وأسرته بسبب مواقفه المبدئية الرافضة للحرب والانتهاكات، وكان المقال دعوة للتضامن الإنساني، ورسالة ضد الكراهية والإرهاب الفكري، لكن ما تلقيته بعد نشره كان رسالة أخرى، تكشف معدن من يقفون وراء الخراب الحقيقي في السودان.
وصلتني رسالة إلكترونية تحمل ألفاظًا نابية ومنحطة من شخص أو جهة تسمي نفسها (Marry Nord) [email protected]، هاجمني، وسبني، وانهال على بلغة سوقية تفضح مستوى الوعي والانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه هذه الجماعات التي تتخفى خلف شعارات دينية أو وطنية لتبرير جرائمها.
ولا أدري ما سبب الهجوم الذي تعرضت له بسبب ما كتبته عن صديقي (أ.م.ع)، وهل تضمن حديثي ما يسيء إلى أيّ من الجماعات المتحاربة في السودان، وبالأخص بعض المجموعات المحسوبة على التيار الإسلامي؟
الإجابة قطعا – لا
 فمن يطالع ما كتبت سيجد أنه لا يتعدى كونه كلمات إنسانية صادقة، كتبتها بدافع التعاطف والمناصرة لصديق يواجه تهديدات جدية ومباشرة من عدة جهات، وهو حديث يمكن لأي شخص يمتلك ضميرا أن يكتبه، أو يقف به إلى جانب من يتعرض للظلم والخطر. غير أن هذا الهجوم الذي طالني يؤكد بوضوح أن الجهة أو الشخص الذي يقف وراءه يعرف صديقي جيدًا، وأنه على الأرجح جزء من الشبكة الإجرامية الإرهابية التي سبق أن هاجمته واعتدت عليه، ولا تزال حتى اليوم ترسل إليه وإلى أسرته رسائل التهديد والإساءة.
 ونحن نعرف هذه اللغة جيدًا، وهي ليست لغة النقد، بل لغة الأجهزة المأجورة، لغة الكتائب الإلكترونية التي ولدت من رحم الدم والفساد والفتنة، لتكميم الأفواه وترويع الأحرار، وهذه هي ذات العقلية التي أحرقت القرى، واغتالت الصحفيين والناشطين، وانتهكت النساء، وشردت الملايين. هذه هي مدارس القهر والإرهاب التي رعت التطرف باسم الدين، وباركت القتل باسم الوطنية، ونهبت باسم الشريعة.
ما وصلني من تهديد وسب ليس إلا امتدادًا لما يحدث يوميا لكل صوت يرفض الحرب ويدعو للسلام، وهؤلاء لا يحتملون الحقيقة، لأن الحقيقة تكشف وجوههم، وتفضح مشاريعهم، وتسحب الغطاء عن جرائمهم ضد الإنسانية.
إن من يرسل رسالة مملوءة بالتهديدات والشتائم لا يريد النقاش، بل يريد إسكات الحقيقة، تماما كما يفعل رفاقه بالسلاح حين يكممون فوهة بندقية في وجه مدني أعزل ولكننا نقولها بصوت عالي (لسنا خائفين ولن نسكت ولن نتراجع)
هذه الرسالة ليست مجرد شتائم عابرة من حساب مجهول، بل بصمة رقمية فاضحة تكشف عقلية الإرهاب والبلطجة التي تقف خلفها، وتؤكد أن من يمارس العنف في الميدان هو ذاته من يمارس البذاءة في الفضاء الرقمي.
إن محاولة ربط الدفاع عن الإنسانية بـ”فوبيات” مصطنعة كـ”كيزانوفوبيا” أو “إسلاموفوبيا” ليست سوى خدعة سياسية رخيصة تهدف لتشويه الحقائق وتبرير الإرهاب، وقضيتنا ليست ضد فصيل سياسي أو ديني، بل ضد الإجرام والقتل والتهديد أياً كان مصدره أو شعاره – فمن يقتل الأبرياء ويهدد الناشطين لا يمثل دينا ولا وطنا، بل يمثل نفسه كمجرم وإرهابي وعدو للإنسانية.
بعد الرسالة التي وصلتني، أدركت تماما السبب الذي جعل صديقي (أ.م.ع) يرفض الكتابة عما يواجهه، ويرفض كذلك أن يكتب الآخرون عنه، لقد كان محقا حين قال لي (لا أريد أن أكتب عن هذه التهديدات، ولا أريد لأحد أن يكتب عني او عنها، ولم أبوح بما حدث إلا لعدد محدود من الأصدقاء المقربين حتى زوجتي التي تعرضت هي الأخرى لتهديدات لم أطلعها على معظم التفاصيل، لأنني لا أريد أن يسيطر الخوف والرعب على حياتها، وانني أرى ان الكتابة عن هذه التهديدات أو كشف تفاصيل الهجوم الذي تعرضت له أنا وعائلتي قد يؤدي إلى تداعيات أكبر، خاصة في بيئة تغمرها الأكاذيب والخداع والنفاق، حتى من بعض من نعدهم قريبين)
لم اقتنع بمبرراته، وجادلته بضرورة الكشف عنها، ولكنني اليوم أدرك تماما أن رفض صديقي (أ.م.ع) الحديث عما يواجهه لم يكن نابعاً من الخوف من هذه الجماعات، بل من وعي عميق بخطورة بيئة يختلط فيها الزيف بالنفاق والحق بالادعاء، ومع ذلك فإننا نؤمن بأن الصمت لم يعد خياراً ممكناً، ولا ترفا مقبولًا في زمن تهاجم فيه الحقيقة وتحاصر الكلمة الحرة.
هذه الجماعات التي تحاول إرهاب الناس عبر الإيميلات والمواقع ومنصات التواصل الاجتماعي هي ذاتها التي مارست القتل والاغتصاب والنهب في كل المدن السودانية، وهي التي تسببت في موت عشرات الآلاف وتشريد الملايين، ولقد انتهكت كل المواثيق والمعاهدات الدولية، وتورطت في جرائم ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، وستحاسب يوماً مهما طال الزمن.
أقول لهؤلاء الجبناء جميعا، ولصاحب الرسالة المجهولة تحديدًا (إننا لا نخاف ممن يختبئ خلف شاشة، لأننا واجهنا ما هو أخطر – واجهنا رصاصاً وقنابل وسجوناً واغتيالات، وإن التهديدات والشتائم التي تبعثونها من خلف الأسماء المستعارة لن تسكت صوتاً ولد من رحم المأساة ليقول الحقيقة
كل حرف بذيء تكتبونه، هو دليل إضافي على عجزكم، وكل تهديد تطلقونه، هو اعتراف صريح بأن كلمتنا أقوى من بنادقكم
نحن لا نرد بالشتائم، بل بالحقائق
ولا نحارب بالكراهية، بل بالكلمة الحرة
ولا نخاف من ظلامكم، لأن فينا نقاء الوطن
إن هذه الحملة المنظمة ضد الأصوات المستقلة تكشف أن هناك منظومة إرهاب إلكتروني وإعلامي تقودها شبكات الإسلاميين وبعض المليشيات المسلحة، تسعى لتشويه من يرفض الحرب وتهاجم كل من يدعو للسلام والمساءلة، في محاولة بائسة لتخويف النشطاء والكتاب ولكن التاريخ لا يرحم والعدالة لا تموت وضمير الشعوب لا يشترى.
نحن أبناء السودان الحر لن ننحني لمجرم أو قاتل أو تاجر دين.
وسيبقى صوت الحقيقة أعلى من أصوات التهديدات والشتائم.
أقول لصاحب الرسالة ولكل من يظن أن التهديد والشتيمة سلاح: أنتم تمثلون الماضي الذي لفظه التاريخ ونحن نمثل المستقبل الذي تصنعه الإرادة الحرة.
فلتكتبوا ما تشاؤون من تهديدات وإساءات، فالكلمة التي تقال من ضمير حر، لا تقتلها رصاصة ولا تهزها تهديد او شتيمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..