مقالات وآراء

الفاشر مدينة صعدت إلى مقام الشهداء

د. الهادي عبدالله أبوضفائر

لم تكن الفاشر مدينةً فقط، كانت روحاً تسكن جسد الوطن. مدينةٌ واجهت الموت لا كقدرٍ محتوم، بل كاختبارٍ للكرامة. عامان من الحصار والجوع والعطش، انقطعت فيها أنفاس المدينة ولم ينقطع صوتها. جفّ الماء، ونفد الزاد، وخيّم الصمت، لكنّ قلوب الناس ظلت تُضيء المكان كأنها مصابيح السماء في ليلٍ بلا نجوم.

لم تنهزم الفاشر، بل ارتقت. صعدت ببطولة أبنائها إلى مقامٍ لا يبلغه إلا من اختار أن يموت واقفاً، شامخاً على أطلال الزمن، متّكئاً على عزيمته حين خذله الجميع. لن أبكيكم أيها الشهداء، فأنتم أكرم منا جميعاً، وأصدق من كل كلمات المواساة. لقد كتبتم بدمائكم ما عجزت الحروف عن قوله، وختمتم صفحة الألم بصمتٍ أبهى من أي نعي.

ولن أبكيكِ يا فاشر، لأن الدموع لا تليق بك، ولأن الكبرياء الذي فيك أبلغ من كل حزن، وأصدق من كل ألم. أنتِ المدينة التي علّمت الأرض معنى الصبر، و معنى الشهادة، والإنسان معنى أن يقف، حتى حين يكون كل شيء حوله قد انهار. كم كنتِ وحيدةً، يا فاشر، محاصَرةً بالخذلان، مطوّقة بالخوف والجوع، ومع ذلك ظلّلتِ شامخةً، كالأم التي فقدت ابنها، لكنها تبقى واقفة، ترفع يديها إلى السماء وتقول. ما زال فيّ نبضٌ للحياة.

لقد علت الفاشر شامخةً، ولم تنهزم. أما نحن فقد انهزمنا في ضمائرنا حين تركناكِ تواجهين الموت وحدك، وها نحن اليوم نقرأ ملحمة البطولة في صمتكِ، ونعترف أن عزيمتكِ كانت أسمى من كل حمايةٍ لم تُعطَ. أنتم لم تودّعوا الحياة، بل أطلقتم أعماقها الأصدق في ذاكرة الوطن. قاتلتم بلا سندٍ من السلطة، بلا غطاءٍ من القصر، بلا وعدٍ سوى وعد السماء. خضتم 268 معركة، كل واحدةٍ منها كانت صلاةً في محراب الوطن، وأقسمتم أن الهزيمة لن تطأ أرضكم ما دامت في الصدور أنفاس. كان الإيمان سلاحكم، والكرامة درعكم، والعزيمة جداركم الأخير،

في كل بيتٍ هناك أمٌّ دفنت ابنها بيديها ثم رفعت كفّيها إلى الله لا تطلب النصر، بل الثبات. وفي كل زقاقٍ طفلٌ حمل الماء للمقاتلين، كأنه يسقي الحياة نفسها.
أما النساء، فكنّ سور المدينة، وأصواتهنّ زغاريد العزّ وسط هدير المدافع. وأما الرجال، فكانوا الجبال التي لم تنحنِ، قاتلوا حتى الرمق الأخير، ثابتين على الأرض كما الجذر في الصخر.

وحين سقط آخر مقاتل، لم تسقط الفاشر، بل نهضت روحها فوق الركام. كانت الأرض تبكي، لكن السماء تبتسم. كان الوطن غائباً، لكن الله حاضراً، يكتب أسماءهم بمدادٍ من نورٍ لا يبهت.

أما غيرهم، فقد صمتوا. كما يصمت الجبن حين يواجه الشرف. تركت الفاشر تواجه مصيرها وحدها، وكأنها ليست من جسد الوطن، وكأن الدم الذي سال هناك لا يجري في عروق هذا الشعب. يا لخذلان الغياب حين تدفن ضميرها، وتترك الأطراف تنزف في صمتٍ طويلٍ ومرّ.

سيكتب التاريخ إن كان له قلب أن الفاشر لم تسقط، بل سقط الوطن من عيونها. وأنّ الشهداء لم يُقتلوا، بل صعدوا إلى الله ومعهم آخر ما تبقّى من كرامة هذه الأرض.
سيقول إنّ الدماء التي سالت هناك كانت أنقى من الخُطب، وأصدق من بيانات العزاء.
لقد انتصرت الفاشر لا لأنها غلبت، بل لأنها لم تُهزم.

يا للفاشر من مدينةٍ تغسل وجهها بالدم وتبتسم كأنها تُودّع الموت إلى الأبد! يا لها من مدينةٍ انكسرت القلوب فيها وارتفعت الأرواح. لقد انهزمت الدولة لا لأنها خسرت المعركة، بل لأنها خسرت ضميرها، وانتصرت الفاشر لأنها حافظت على معناها في زمنٍ ضاعت فيه كل المعاني.

سيبقى اسم الفاشر محفورًا في قلب الوطن كما تُحفر أسماء الأنبياء في الذاكرة. مدينةٌ خرجت من النار نقيةً كالندى، ومن الموت أكثر حياة. وسيبقى أبناؤها شاهدين على أن في السودان مدناً لا تموت، حتى لو ماتت الدولة حولها، لأن الله إذا أحبّ مدينةً، جعل من دموعها نهراً، ومن شهدائها نجوماً تهدي العابرين في ظلام الوطن الطويل

حتماً، ستنتصر الفاشر. فالحق لا يموت، والكرامة لا تُهزم. وستعود المدينة شامخةً، صامدةً، كأنها تهمس للعالم كله: لن تهزمنا الخيانات، ولن تسحقنا الصعاب، فصمودنا أسمى من كل الظروف،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..