
وفي السودان، تحوّل هذا الصراع إلى مأساةٍ مركّبة لأنّه لم ينفجر من رحم التناقض الاجتماعي الطبيعي، بل من مشروعٍ سياسي عقائدي صنعته الحركة الإسلامية منذ انقلاب ١٩٨٩، حين قرّرت أن تكتب مصير البلاد على قياس عقيدتها لا على مقاس شعبها. فباسم الدين ألغت الآخر، وباسم الشريعة شوّهت العدالة، وباسم التمكين سرقت مؤسسات الدولة وحوّلتها إلى غنيمة. أعادت تعريف المواطنة لتصبح ولاءً للحزب لا للوطن، وأنشأت اقتصادًا مسيّسًا يُكافئ الولاء ويعاقب الانتماء. كانت الثروة تُمنح لمن يسبّح بحمد السلطة، وتُنتزع من كل من يختلف معها في الأصل أو اللون أو الجهة.
في عهدهم تمّت خصخصة السودان؛ الأرض للمحسوبين، المناصب للأتباع، والخطاب الديني غطاءٌ لكل جريمة. صادروا النقابات وكمّموا الصحافة، وأغرقوا البلاد في ديونٍ تُثري دوائرهم الضيقة. وفي أطراف البلاد، جرى تفكيك الإدارة الأهلية وتغذية الخصومات القبلية بالسلاح تحت شعار “الدفاع الشعبي”. تلك كانت البذور الأولى لحرب دارفور، يوم تحوّل التهميش إلى عقيدة رسمية، والعنصرية إلى لغة دولة. وحين اشتدّ الحصار الاقتصادي الدولي، صنع الإسلاميون اقتصادًا موازياً يقوم على تهريب الذهب والبشر والسلاح، لتصبح السلطة مشروعَ مافيا أكثر منها دولة.
بهذا التمكين الطويل، عمّق الإسلاميون في وعي السودانيين فكرة التفاضل؛ أن هناك مركزًا مقدّسًا وهامشًا مدنّسًا، عربًا أفضل من أفارقة، ومسلمين أنقى من مسلمين آخرين، وأنّ الله منح الحق لمن يحكمون لا لمن يُحكمون. ومع مرور الزمن، تحوّل هذا الخطاب إلى بنية ثقافية سامة تسكن اللاوعي الجمعي للأمة.
وعندما انهارت دولتهم، لم تسقط منظومتهم الأخلاقية معهم، بل خرجت من الرماد على هيئة جيوشٍ متناحرة تحمل الكراهية نفسها التي زرعوها في العقول. لذلك فالحرب التي تمزّق السودان اليوم ليست صراعًا بين جيشٍ ومليشيا، بل حربُ فكرةٍ ضد فكرة؛ دولة المواطنة في مواجهة دولة الغنيمة، وسودان الإنسان في مواجهة سودان الامتياز. وما يجري في الفاشر هو المشهد الأكثر صفاءً لهذا الانقسام، حيث تلتقي العنصرية بالانتقام، والجهوية بالثأر، ويتحوّل الدين الذي كان يُفترض أن يوحّد الناس إلى خنجرٍ في قلب الوطن.
منذ أن انقسم السودان على ذاته وتحوّل جيشه إلى معسكرين يتنازعان البقاء، لم تعد الحرب فيه مجرّد صراعٍ على السلطة، بل صراعًا على معنى الدولة نفسها. وحين تهاوت الفاشر، آخر القلاع العسكرية الكبرى في دارفور، لم يكن ذلك حدثًا ميدانيًا عابرًا، بل علامةً فارقة في تاريخ الأزمة السودانية. المدينة التي كانت رمزًا للتوازن القبلي والسياسي في الإقليم، أصبحت اليوم شاهدًا على انهيار تحالفاتٍ كانت تُظنّ راسخة، وعلى بداية مرحلةٍ جديدة تضع العالم والرباعية الدولية أمام امتحانها الأصعب منذ اندلاع الحرب.
ففي السادس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢٥، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على الفاشر بعد حصارٍ امتد لأشهرٍ ومعارك وحشية دامية انتهت بمقتل معظم القيادات العسكرية الصلبة التابعة للجيش وقوات مناوي المشتركة. وبينما كانت الوفود السودانية تتحرك في واشنطن لإجراء محادثاتٍ غير مباشرة برعاية الرباعية (الولايات المتحدة، مصر، السعودية، الإمارات)، جاء هذا الحدث كزلزالٍ قلب الموازين على الأرض والطاولة معًا. وقد رأت دوائر أمريكية وغربية غير رسمية في ما جرى تحوّلًا استراتيجيًا قد يُعيد رسم خريطة السودان من جديد، معتبرةً أن الفاشر تمثّل نقطة الانكسار الكبرى التي أنهت مرحلة النفوذ العسكري التقليدي، وفتحت الباب أمام مرحلة “إدارة الانهيار” بدلًا من إدارة الصراع.
الفاشر لم تكن مدينةً محاصرة فحسب، بل مرآة تُظهر لنا كيف يمكن للأيديولوجيا حين تفقد إنسانيتها أن تُنتج أفظع صور البغضاء. إنها لحظة الحقيقة التي يُساق فيها وطنٌ بأكمله ليدفع ثمن ثلاثين عامًا من التزييف والتسلّط والتمييز المنهجي الذي مارسه الإسلاميون باسم الله، حتى بات السوداني يكره أخاه في الله قبل أن يعرفه في الأرض.
غير أنّ ما جرى في الفاشر لا يمكن فهمه خارج سلسلة المسؤولية التراتبية التي أوصلت السودان إلى هذه اللحظة المأساوية. فالمسؤولية الأولى تقع على الحركة الإسلامية التي غيّرت طبيعة الدولة نفسها حين جعلت من الدين أداة حكمٍ وهيمنة، ومن القبيلة معيارًا للانتماء، فمزّقت النسيج الوطني وحرّضت السودانيين بعضهم على بعض. لكنها لم تكتفِ بذلك، بل كانت هي من أشعلت الحرب الراهنة بقرارٍ واعٍ لاستعادة نفوذها المفقود بعد الثورة، مستخدمةً ضباطها وشبكاتها داخل مؤسسات الدولة لإعادة السودان إلى زمن التمكين القديم.
ثم جاءت الحركات المسلحة، وعلى رأسها حركتا مناوي وجبريل، لتزيد الجرح اتساعًا، إذ أدخلوا الفاشر وأهل دارفور في أتون محرقةٍ جديدة بعدما تحوّل نضالهم إلى مقايضةٍ بالمناصب والتحالفات.
وتأتي المسؤولية الثالثة على مجموعة “تأسيس” التي مثّلت الظهير المدني لقوات الدعم السريع، وساهمت في تلميع مشروعها السياسي والعسكري تحت لافتة “التغيير”. فقد فشلت في إدماج الدعم السريع ضمن منظومةٍ منضبطةٍ تحترم القانون الإنساني وحقوق الإنسان، بل تغاضت عن تجاوزاته باسم الواقعية السياسية. ومن موقع المسؤولية الأخلاقية والوطنية، فإنَّ تحالف “تأسيس” مطالبٌ بتحمّل مسؤوليته كاملةً تجاه ما ارتكبته قوات الدعم السريع من فظائع في الفاشر وسائر الجبهات. فكما طالبنا الجيش بتقديم المتورطين في قتل المدنيين والأسرى إلى محاكماتٍ علنيةٍ عاجلة، فإنّ الواجب ذاته يطال مؤيدي الدعم السريع سياسيًا وإعلاميًا. عليهم أن يدركوا أنّ الجرائم لا تُبرّر بالشعارات، وأنّ من يلوذ بالصمت على الدم إنما يشارك في سفكه.
هكذا تتضح الخريطة الأخلاقية للصراع؛ إسلاميون هيّأوا الأرض بالسمّ، وأشعلوا الحرب بالنار، ومسلّحون وسّعوا جراحها، ومدنيون غطّوا دخانها. ومن لا يرى هذا التسلسل، لن يفهم كيف وصل السودان إلى لحظة الفاشر، حيث انفجرت كل الخطايا دفعةً واحدة.
وإذا كانت الفاشر قد انهارت ميدانيًا بين مهاجمٍ ومدافعٍ، فإن العالم انهار معها أخلاقيًا. فقد تتابعت ردود الفعل الدولية على نحوٍ يعكس ازدواجية المعايير وانكشاف العجز الجماعي أمام مأساة السودان. الأمم المتحدة اكتفت بالتحذير من “تقارير مروّعة عن إعداماتٍ ميدانية وانتهاكاتٍ ذات طابعٍ عرقي” نفذتها قوات الدعم السريع، فيما وصف مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان ما حدث بأنه “جرائم جسيمة” تستدعي تحقيقًا دوليًا عاجلًا. أما منظمة اليونيسف، فحذّرت من أن الفاشر باتت “مركزًا لمعاناة الأطفال في العالم”، بعدما حُوصر لأشهر أكثر من مئتين وخمسين ألف مدني داخل المدينة بلا غذاءٍ ولا دواءٍ ولا ماء. ومع ذلك، ظلّ مجلس الأمن صامتًا، واكتفت القوى الكبرى ببياناتٍ دبلوماسية تكرّر ذات العبارة المملة؛ “القلق العميق”.
ففي أول تصريح رسمي بعد الأحداث، قال مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي للشؤون العربية والأفريقية، إنّ ما يجري في السودان تجاوز كونه حربًا أهلية إلى خطرٍ وجودي يهدد وحدة البلاد، مؤكدًا أنّ عودة الإخوان وفلول النظام السابق خط أحمر لا يمكن القبول بعودتهم إلى المشهد، لأنّهم، بحسب تعبيره؛ “كانوا أحد أسباب هذا الانقسام العرقي والسياسي الذي أوصل السودان إلى حافة التفكك.”
تصريح بولس لم يكن مجرّد موقفٍ سياسي، بل إقرارٌ متأخر بأنّ الحرب الحالية هي نتاج مشروعٍ إسلاميٍّ فشل في بناء الدولة، ونجح فقط في زرع الكراهية وتقسيم المجتمع. وهكذا بدا واضحًا أنّ واشنطن والرباعية تنظران إلى ما جرى في الفاشر ليس كمعركةٍ عسكرية، بل كجرس إنذارٍ استراتيجي يفرض تسريع الخطوات نحو حلٍّ شاملٍ يضع حدًّا لإرث الإسلاميين ويمنع تحوّل السودان إلى ليبيا جديدة.
ما بعد الفاشر ليس مجرّد فراغٍ سياسي، بل بداية مرحلة جديدة من إعادة الاصطفاف. فالحرب التي بدت عسكرية في ظاهرها تتحوّل الآن إلى صراعٍ مفتوحٍ على الشرعية والذاكرة، وعلى من يملك حقّ الحديث باسم السودان.
اتجاهات الحرب ستشهد تحوّلًا واضحًا نحو حرب استنزافٍ طويلةٍ منخفضة الكثافة، يتراجع فيها العامل الميداني لصالح الصراع السياسي والدبلوماسي. فالجيش بعد الفاشر سيسعى إلى إعادة تعريف نفسه كمؤسسة وطنية فقدت السيطرة على الأرض لكنها لم تفقد شرعيتها الرمزية، فيما سيواجه الدعم السريع معضلة الوجود في ظل عزلةٍ دولية متزايدة وضغوطٍ من الحلفاء أنفسهم لتغيير سلوكه أو إعادة هيكلته.
في المقابل، ستعمل الحركة الإسلامية والفلول على استخدام التحشيد الإعلامي والشعبي لرفض أيّ مسار سلامٍ ترعاه الرباعية، مستعيدةً خطاب “المؤامرة على الإسلام والوطن”. وستحاول تصوير الدعوة إلى استبعادها على أنها استهدافٌ للهوية لا محاسبة على الجريمة، مستندةً إلى شبكاتٍ ماليةٍ وإعلاميةٍ نائمة تنتشر في الإقليم. هذا الخطاب سيُشكّل تحديًا للمدنيين الحقيقيين الذين يدركون أن العدالة ليست انتقامًا بل شرطًا للبقاء.
أما الرباعية الدولية، فستتجه إلى تسريع محادثات الحلّ السياسي في واشنطن أو جنيف، مدفوعةً بخوفٍ متزايد من سيناريو التقسيم، لكنها ستسعى في الوقت نفسه إلى فرض معادلة جديدة؛ لا عودة للإسلاميين، ولا شرعية لسلطةٍ عسكرية أو ميليشياوية. ومع ذلك، فإنّ نجاح الرباعية مشروطٌ بقدرتها على ربط السلام بالعدالة، لا بالاكتفاء بالهدنة المؤقتة التي تمنح القتلة وقتًا لإعادة التموضع.
الرباعية، وعلى الرغم من خطّها الواضح وقوة تأثير اعضائها على المشهد السوداني، الا انها اليوم تقف أمام لحظة الحقيقة؛ فإمّا أن تكون شريكًا في صناعة عدالةٍ تُوقف النزيف، أو شاهدةً صامتةً على موت وطنٍ بأكمله. لن يصنع السلام مَن يتجاهل الجثث تحت الركام، ولن تُبنى الدولة على صفقاتٍ تُجمّل القتلة وتُكافئ المجرمين بمناصب جديدة. إنّ العدالة وحدها هي التي تُعيد للسودان ملامحه، وهي التي ستفصل بين زمنين؛ زمنٍ كان فيه الدم وسيلة للحكم، وزمنٍ يُصبح فيه الحكم وسيلةً لحماية الإنسان.
وعليه، فإنّ مستقبل السودان بعد الفاشر يتوقف على وعي القوى المدنية وجرأتها؛ فإمّا أن تلتقط اللحظة التاريخية لتأسيس سلامٍ عادلٍ يعيد للدولة روحها، أو تترك الميدان مرةً أخرى لأصحاب السلاح وأمراء الكراهية. لأنّ من لم يتعلم من الفاشر، سيعيد إنتاجها في كل مدينةٍ أخرى باسمٍ جديد، ولونٍ جديد، ودمٍ جديد.
وفي ختام هذا المشهد، تظلّ الفاشر ليست مجرد مدينةٍ دمّرتها الحرب، بل مرآةً كبرى يرى فيها السودان صورته الأخيرة؛ وطنٌ أُنهكته الأيديولوجيا، وابتلعته الميليشيات، وخذلته النخب، وتواطأ عليه العالم.
فليعلم العالم أن ما جرى في الفاشر ليس حادثةً عابرة في حربٍ منسية، بل شهادة ميلادٍ جديدة لجمهورية الخراب التي أنشأها الإسلاميون قبل ثلاثة عقود، وسقَتها الميليشيات اليوم بدماء الأبرياء. هذه ليست حربًا بين جيشٍ ومتمرّد، بل حربٌ بين ضميرٍ وهاوية، بين وطنٍ يبحث عن ذاته ووحشٍ يريد ابتلاعه.
الفاشر ليست مدينةً سقطت، بل ضميرٌ أُعدم على الهواء، وشاهدٌ يصرخ في وجه البشرية؛ أنقذوا ما تبقّى من إنسانكم قبل أن تبحثوا عن سلامكم. الفاشر ليست نهاية الحرب، بل بدايتها الحقيقية، لأنها كشفت كلّ الأقنعة، وأسقطت كلّ الخرافات التي تُبرّر القتل باسم الوطن. من رمادها سيُكتب مستقبل السودان، إمّا بعقلٍ يعترف بالجرح ويطهّره، أو بجهلٍ يواصل النزيف حتى آخر قلبٍ في هذا الوطن.
إنّ الله لا يُصلح عمل المفسدين، ولا يُقيم دولةً على باطلٍ مهما تجمّل بالرايات. ومن يظنّ أن الدم طريقه إلى السلطة فليقرأ الفاشر جيّدًا؛ لقد وصل، لكن إلى الهاوية.



