دعونا لا ننتظر الهزيمة: ضرورة عقد مؤتمر إسفيري لتقييم ومراجعة أخطاء الثورة والخروج بالمتغير الجديد
عبد الحافظ سعد الطيب

ولادة فكرة النقد الشامل العملي
لقد وُلدت فكرة جديدة تدعو إلى مؤتمر نقدي شامل لتجربة الانتقال وقوى الحرية والتغيير، ليس بوصفه موقفًا عاطفيًا أو انحيازًا، بل كضرورة وطنية لتصحيح المسار.
إنّ نقد التجربة لا يمكن أن يظل في حدود النقاشات الفردية أو الحوارات الإعلامية، بل يحتاج إلى مؤتمر وطني حقيقي تُشارك فيه كل الأطراف الفاعلة التي كانت داخل التجربة ، تُقدَّم فيه أوراق تقييم موضوعية وصريحة، ويُعلن في ختامه برنامج جديد وخطة واضحة للمستقبل.
ذلك المؤتمر يمكن أن يكون بمثابة الرافعة السياسية والفكرية لإعادة بناء الثقة بين القوى المدنية والجماهير، وبين المشروع الوطني وروحه الأولى التي خرجت من الميادين.
فبدون هذا النقد المؤسسي الشجاع، ستبقى التجربة أسيرة التبرير والإنكار، وستتكرر الأخطاء نفسها بأسماء مختلفة.
ثورة المعلومات كمنصة للتأسيس الجديد
وبما أنّ وسائل الاتصال الحديثة التي أفرزتها ثورة المعلومات أصبحت في متناول الجميع، فإنّ الدعوة لعقد مؤتمر نقد التجربة لا ينبغي أن تنتظر الظروف المثالية أو الدعم اللوجستي التقليدي.
يمكن البدء بـ لقاء تمهيدي إسفيري عبر المنصات الرقمية مثل “كلب هاوس” أو “البودكاستات الحوارية المفتوحة”، تُوجَّه فيه الدعوة إلى كل الممثلين لقوى الحرية والتغيير والجذري وبقية التيارات المدنية، ليقدّم كل طرف ورقة تقييم شاملة لتجربته في فترة الانتقال، ما له وما عليه.
من خلال هذا اللقاء التمهيدي يمكن الاتفاق على إعلان مشترك يدعو إلى مؤتمر شامل لتقييم ونقد تجربة سلطة الانتقال، على أن تُختتم جلساته بوثيقة سياسية جديدة تُعبّر عن التحول من القديم إلى الجديد — من التبرير إلى النقد، ومن الجمود إلى الفعل، ومن الانقسام إلى البناء المشترك.
هكذا يمكن تحويل أدوات العصر إلى منصات وعي وتأسيس تعيد الثقة وتفتح طريقًا جديدًا نحو مشروع وطني متجدد.
أخطاء التجربة الانتقالية وجذور الأزمة
إنّ قراءة تجربة الانتقال في السودان تكشف عن خللٍ بنيوي عميق في التفكير والممارسة داخل قوى الحرية والتغيير، وفي العلاقة بينها وبين الدولة والمجتمع.
لم تكن الأزمة محض صدفة، بل نتيجة تراكم من سوء التقدير السياسي، وضعف التنظيم، وغياب المشروع الفكري الواضح.
ومن أبرز الأخطاء:
1. التسليم الطوعي للسلطة إلى اللجنة الأمنية للنظام السابق:
لحظة التفاوض الأولى كانت لحظة الحسم، حين قرّرت الحرية والتغيير تسليم إدارة الدولة إلى ذات المنظومة العسكرية التي مثّلت الامتداد المباشر للنظام القديم، تحت ذريعة “الشراكة” و“تجنب الصدام”.
بذلك تحوّل الانتقال من مشروع لبناء دولة جديدة إلى نسخة ناعمة من النظام القديم، وأُفرغت الثورة من مضمونها.
2. غياب الرؤية الاقتصادية والاجتماعية الواضحة:
انشغلت القوى المدنية بالمحاصصات والمناصب على حساب بناء رؤية وطنية تعالج أزمات المعيشة.
فانهارت الثقة الجماهيرية التي كانت الركيزة الأساسية للثورة.
3. تفكك القيادة المدنية وتضارب مراكز القرار:
تعدّد المنابر داخل الحرية والتغيير أضعفها أمام الشركاء العسكريين.
غابت المؤسسية، وتقدّم الولاء الحزبي على المصلحة الوطنية، فتحوّلت الساحة إلى صراعات داخلية عطّلت الانتقال.
4. العزلة عن الشارع الثوري:
بعد أن كانت الميادين منبع الشرعية، انفصلت عنها النخب السياسية، ففقدت الثورة قاعدتها الاجتماعية الحقيقية.
هذا الانفصال سمح بعودة القوى المضادة ببطء حتى استعادت أدوات الدولة والإعلام والمال.
5. الفشل في تحقيق العدالة الانتقالية:وعدم الأخذ بقوانين الثورة
شعار “العدالة أولاً” ظلّ مجرّد عبارة، لأنّ السلطة المدنية ترددت في فتح الملفات الحقيقية خوفًا من الصدام مع المكوّن العسكري.
وهكذا ضاعت اللحظة الذهبية للمحاسبة، وضاعت معها الثقة في مشروع الثورة.
الثورة لا تنهزم إلا حين تكف عن مراجعة نفسها
إنّ أعظم ما في الثورة ليس لحظة اندلاعها، بل قدرتها على مراجعة ذاتها ونقد أخطائها بشجاعة.وبسرعة
فالثورات لا تُهزم بالسلاح وحده، بل حين يتحول وعيها إلى جمود، ونقدها إلى صمت.
إنّ نقد تجربة قوى الحرية والتغيير لا يُقصد به إدامة الماضي أو جلد الذات، بل هو مفهوم الثورة على النفس والآخرين، لأنّ التغيير يبدأ من الداخل.
الثورة التي لا تنقد نفسها تفقد أخلاقها، والثورة التي لا تتغير تموت وهي واقفة.
لقد آن الأوان للانتقال من ثقافة التبرير إلى ثقافة التقييم، ومن التمسك بالقديم إلى الجرأة في طرح الجديد.
المراجعة الحقيقية يجب أن تشمل كل شيء: الفكر، التنظيم، التحالفات، والعلاقة بالشارع.
إنّ قوى الحرية والتغيير أمام اختبار تاريخي جديد:
إما أن تواجه تجربتها بشجاعة وتفتح الباب لوعيٍ جديدٍ يعيد صياغة مشروعها الوطني،
أو تبقى تدور في نفس الدائرة القديمة وتترك المجال للقوى المضادة لتكتب تاريخ السودان مرة أخرى بدمائه.
النقد المطلوب اليوم ليس تنظيرًا، بل فعلًا سياسيًا مؤسسًا:
مؤتمر وطني شامل بمشاركة كل القوى.
أوراق تقييم حقيقية بلا مجاملة.
وثيقة ختامية تطرح برنامجًا جديدًا للتغيير يستعيد روح الثورة الأولى.
نداء إلى الجيل القادم من الثوار
يا أبناء هذا الوطن الثائرين ،
الثورة ليست جدارًا نلوذ خلفه، بل مرآة نرى فيها أنفسنا كل مرة.
أن نراجع أنفسنا لا يعني أن نتراجع، بل أن نتقدم بخطى أكثر وعيًا.
الثورة لا تموت لأنها تسكن ضمير الناس، وكل مراجعة صادقة تمنحها حياة جديدة.
فلنكتب فصلاً جديدًا في كتاب ثورة ديسمبر
“لا قداسة للأخطاء، ولا وصاية على المستقبل، ولا تراجع عن فكرة التغيير.”
ومن يملك شجاعة النقد، يملك القدرة على البناء،
ومن يراجع نفسه بصدق، لا يُهزم أبدًا.



