مقالات وآراء

إعلام الفلول.. صناعة الوهم واستراتيجية الإلهاء

الصادق حمدين

مدخل تمهيدي
من يطالع الخطاب الإعلامي للفلول أو ما يُعرف بـ“إعلام الكيزان”، قد يظن أنه مجرد ضجيج غوغائي وسذاجة لا تستحق الالتفات أو حتى التعليق. فالشعارات المكررة والمبالغات الفارغة توحي بالبؤس الفكري والبساطة حد السذاجة. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير؛ فخلف هذا الضجيج تختبئ منظومة إعلامية مدروسة ومحترفة تعرف جيدًا كيف تدير العقول وتوجّه الانفعالات وتعيد صياغة الوعي الجمعي وفق ما يخدم مصالحها.

إنه في واقعه إعلام مُحكم بثوب البساطة. قد يبدو خطاب الفلول بدائيًا وساذجا، لكنه في جوهره يستند إلى مناهج واستراتيجيات دقيقة أثبتت فاعليتها حتى في مجتمعات أكثر تقدمًا وتعليمًا من السودانيين. فما بالك بشعب تعمّد النظام السابق تجهيله وإفقاره معرفيًا على مدى عقود طويلة؟ تلك السياسات لم تكن عبثًا، بل جزءًا من خطة طويلة الأمد هدفها تفريغ الإنسان السوداني من أدوات الوعي والنقد، وتحويله إلى متلقٍ سلبي يسهل توجيهه والسيطرة عليه.

بهذا الشكل، نجح إعلام الفلول في أن “يستغبي” البعض، ويغذّي الغباء الفطري في آخرين. والأكاذيب المكشوفة التي قد تبدو اليوم مضحكة وسخيفة، ستتحول مع مرور الزمن إلى “حقائق تاريخية”، تمامًا كما حدث مع كثير من صفحات تاريخنا التي كُتبت لتخدم رواية السلطة، لا رواية الوطن.

استراتيجية الإلهاء وتضخيم التوافه، من أكثر الأدوات التي يستخدمها إعلام الفلول فاعليةً هي استراتيجية الإلهاء وتضخيم التوافه، وهي واحدة من “الأسلحة الصامتة” الواردة في الوثيقة الشهيرة «الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة»، التي اعتمد عليها المفكر نعوم تشومسكي في مقاله المعروف “استراتيجيات الإعلام العشر”. أو كما يطلق عليها البعض “موبقات الإعلام العشر”

تقوم هذه الاستراتيجية على مبدأ بسيط لكنه خطير: اصرف انتباه الناس عن القضايا الجوهرية بتضخيم أحداث هامشية. قد يكون الحدث في ذاته تافهًا أو بلا قيمة، لكن الإلحاح الإعلامي عليه يحوله إلى قضية وطنية كبرى، في حين تمر القضايا المصيرية دون نقاش أو وعي.

في المشهد السوداني الراهن، يتجلى هذا التكتيك بوضوح في تضخيم أي انتصار هامشي يحرزه جيش الفلول، كاستيلاء مجموعة منهم على حي صغير أو نقطة تفتيش مهجورة. فإعلامهم يصور الحدث وكأنه “منعطف استراتيجي” في مجريات الصراع، بينما الحقيقة أنه لا يتجاوز كونه تفصيلاً عابراً لا يغير شيئاً في موازين القوى ولا يختلف في أثره عن أي حادث يومي في أطراف المدن.

الهدف من هذه الضجة ليس القيمة العسكرية للهدف، بل إلهاء الرأي العام، وصرف الأنظار عن المواقع الأكثر أهمية التي عجزت قوات جيش الفلول عن الوصول إليها منذ اندلاع المعارك. وهكذا تتحول الهزائم إلى “انتصارات”، والمواقع المنسية إلى “رموز وطنية” من خلال الكاميرا والمايكروفون وحناجر “اللايفاتية” لا من خلال الواقع الميداني.

صناعة الوهم… من النورماندي إلى الخرطوم، ولعل هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي يُستخدم فيها الإعلام لصناعة وهم القوة والانتصار. فخلال الحرب العالمية الثانية، استخدم الجيش الأمريكي نفس الأسلوب في إنزال النورماندي، حيث ضخّم إعلاميًا من حجم قواته وقدراته العسكرية لخلق صورة زائفة عن التفوق الأمريكي.

ومع مرور الوقت، أقنع الإعلام الغربي العالم بأن أمريكا هي من حسمت معركة برلين، بينما تم تهميش الدور الروسي الحقيقي في كتب التاريخ وأفلام السينما.

الخطر الحقيقي: كتابة التاريخ بالأكاذيب، الخطر في هذه اللعبة الإعلامية لا يكمن فقط في تضليل الناس أثناء الحدث، بل في كتابة تاريخٍ مزيف يُدرَّس لاحقًا كأنه الحقيقة المطلقة. ومع تراكم الأكاذيب، تُعاد صياغة ذاكرة الأمة بالكامل، فتصبح الضحية جلادًا، ويُرفع من خان الوطن فوق أكتاف الجماهير المضلَّلة.

وعي الناس هو المعركة الحقيقية، إن معركتنا اليوم لم تعد تدور فقط في الميدان، بل في العقول. فالإعلام لم يعد وسيلة لنقل الخبر، بل أداة لتشكيل الوعي، ومن يربح وعي الناس يربح المستقبل. لذلك، فإن مسؤولية كل مواطن أن يُعيد التفكير فيما يُقدَّم له، وأن يتعلم كيف يفرّق بين الحقيقة وصناعة الوهم.

الوعي لا يُمنح، بل يُنتزع. وكل أمة تفشل في حماية وعيها، تترك مصيرها لمن يجيد الكذب باسم الحقيقة. فلننتبه… فالمعركة لم تنتهِ بعد، لكنها بدأت من حيث لا نرى: من داخل العقول فلنترك الغباء الطوعي ونجعل عقولنا هي الحكم والمرجع في كل شيء، حينها لن يجد الفلول سوقا لبيع علفهم الفاسد، وسيكون حتما مصيره الكساد والبوار.

الصادق حمدين – هولندا

تعليق واحد

  1. إعلام السلطة، يعكس ببساطة وجهة نظر شريحة من الشعب، وينقل أحداثًا ووقائع يعيشها هؤلاء بالفعل. وصفه بأنه “تضليل” أو “صناعة وهم” يتجاهل أن كل وسائل الإعلام السياسية في العالم تقدم الأحداث من منظورها الخاص. تصوير الانتصارات الصغيرة أو تسليط الضوء على قضايا محددة ليس خداعًا بالضرورة، بل وسيلة لإظهار الإنجازات وتعزيز الروح المعنوية لمؤيديهم. النقد يجب أن يكون موضوعيًا، وليس مجرد رفض لأي خطاب لا يتفق مع رؤية الكاتب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..