مقالات وآراء

ما الحرب إلا ما علمتم وذقتم: إنقلاب عسكري آخر بعثوه ذميما مُضرم (1)

محمد عبد الخالق بكري

أنها حقيقة: ما يحدث في السودان منذ ابريل 2023 ليس حرب أهلية، انما هو انقلاب عسكري، اطرافه عسكرية. إنقلاب عسكري وانقلاب عسكري مضاد، سواء تخرج قادته من الكلية الحربية او أكاديمية حرب الرمال. هو في نهاية الأمر إنقلاب عسكري. إنقلاب ممتد منذ ذلك التاريخ الى يومنا هذا. إنقلاب عسكري غير تقليدي، يحاول التنكر في شكل حرب أهلية، بل يجتهد قادة هذا الإنقلاب من الطرفين لجعله حرب أهلية. هذه هي الحقيقة.
نعم، واقع الأمر هو ليس أنقلاب فحسب، بل تتويج لإنتهاج نهج الانقلاب العسكري والقوة في السودان للإستيلاء على السلطة. ولكن ما يحدث هو في نفس الوقت تعبير عن ازمة المؤسسة السياسية السودانية ككل بتنظيماتها واحزابها جميعا دون استثناء، وانحدارها لتتحول الى مؤسسة طقوسية، بأحزابها المدنية ومنظماتها العسكرية، نظامية او غير نظامية.
ما عرف بالحلقة الشريرة: ديمقراطية، انقلاب، ديمقراطية، انقلاب لا يمكن فهمه الا بالنظر اليه كمؤسسة واحدة هي مؤسسة السياسة السودانية منذ الاستقلال وأن الانتفاضة عبارة عن تعبير عن ازمة المؤسسة وتوق واشواق لمؤسسة عادلة. فنحن لسنا ازاء مؤسستين متنافستين على حكم السودان بل امام مؤسسة واحدة ذات شقيين: شقي رسمي لفترة قصيرة ينبغي ان يكون جوهره الحريات الاساسية والحقوق، ولكن ذلك لا يتحقق ابدا في ممارسة الاحزاب، حتي الان. وشق غير رسمي (هو الانقلاب والدكتاتورية) جوهره مصادرة الحريات ومحق الخصوم ينتج كأمتداد وتغليظ لممارسة التعددية السودانية في محق الحريات.
كان الإنقلاب العسكري على دوام هو جزء اساسي من الشق غير الرسمي للمؤسسة السودانية في حقبات الديمقراطية الثلاث، (العصاية المدفونة)، ويتحول الى الشق الرسمي للمؤسسة مع نجاح كل انقلاب عسكري (نوفمبر 58، مايو 69، يونيو 89، اكتوبر 2021). ولقد تورطت فيه جميع الاحزاب دون استثناء: بالتخطيط والتنفيذ أوالتحالف، بالتأييد او المصالحة معه، بالتعايش معه وقبوله كأمر واقع، وبالمشاركة في برلماناته وذر الرماد في عيون جماهيرها، وبالموافقة على خوض إنتخابات تحت ظله بدعاوي كذوبة تتجنب الإعتراف بسطوته على الحياة السياسية. وتجب الملاحظة هنا، إن الانقلاب نفسه كوسيلة، يحمل نفس مكونات كروموسوم المؤسسة السياسية والنظام الحزبي السوداني التعددي ككل منذ مؤتمر الخريجين: عدم القدرة على التعاون المؤسسي بين أطرافه المنفذة وعدم القدرة على تأسيس حياة كريمة للناس. الانقسام الذي طبع النظام الحزبي السوداني منذ اواخر اربيعنات القرن الماضي وأفشل فيما بعد كل إنتفاضة شعبية، وإن انتصرت لبرهة، هو نفسه سمة أطراف اي إنقلاب عسكري. إن الازمة ازمة مؤسسة كاملة وليس أزمة حفنة من المغامرين العسكريين والمدنيين.

والطقوسية في كل العالم هي سمة المؤسسات وهي في طريقها نحو الفناء والإندثار. والطقوسية في جوهرها سباق شعائري تكتنفه الطقوس من أجل الإستحواذ على السلطة والثروة والمكانة وتركيزها في ايدي محدودة دون إستحقاق. يتوسل اللاعبون في هذا السباق بإنتاج وإعادة انتاج الشعائر والشعارات مهما كانت، علمانية او دينية أو قومية، الأقنعة، ادوات وعدة الكهنوت – وجوهر الكهنوت هو الحقيقة المطلقة – إنتاج المراتب والرتب، البيارق والاهازيج والرواة والشعراء والمغنين والخطباء. ويجب التنويه الى أن السباق نحو السلطة والثروة والمكانة لا يقتصر فقط على العسكريين، بل يشمل المدنيين ومنظماتهم. وإن كان المدنيون الآن يدعون الطهر والزهد في السلطة ولعب دور (الاجاويد) فهذا محض وهم فقد اصابت جرثومة السباق نحو السلطة الجميع.
ضربت الطقوسية جذورها تدريجيا في قلب النظام الحزبي السوداني وعسكرت. وعندما تمسك الطقوسية بتلابيب مؤسسة ما تسيطر على الطرف الغالب والمغلوب، الفاعلين الاساسيين والهامشيين. وتتنكر وتموه نفسها وتغمر الحقيقية بطمى الأوهام والطقوس والأخيلة كما يفعل فلاسفة تحالف تأسيس الجدد في دعمهم لمشروع حميدتي والدعم السريع، ويا للعجب من اقصي اليمين – منة مواقع (حمايتي) – الى اقصى اليسار – نظرة السودان الجديد والقضاء على دولة 56 ومن مواقع الحركة الشعبية الاولى الاصلية في بيان تأسيسها عام 1983. وايضا كما يفعل حراس دولة بورتسودان، ايضا من اقصي مواقع اليمين الحركي المسلح الى اقصى مواقع اليسار الأكاديمي والتنظير لفلسفة كيان الدولة والمؤسسات وتزييف تعريف المؤسسات نفسها وخيانة الأمانة العلمية بل خيانة تاريخ التهميش، بل وخاينة تاريخهم الشخصي في مناهضة التهميش. لا يحدث ذلك الا تحت مؤسسة غرقت في الطقوسية.
سأتناول في هذه الحلقة الأولى فقط ملامح الانحدار نحو الطقوسية فيما حدث بين البرهان وحميدتي (الجيش والدعم السريع). وهذا في حقيقة الأمر كما اسلفت محض إنقلاب عسكري داخل إنقلاب عسكري. انقلاب عسكري في طور جر المؤسسة السودانية معه كلها نحو الفناء. ولم يكن من الممكن أن يحدث مالم يمكّنه ولوغ المدنيين واحزبهم دون استثناء في الطقوس والطقوسية وبالتالي إنقساماتهم الحتمية. وساتناول في حلقة تالية انحدار النظام الحزبي السوداني ككل وساسته وتحالفاته الراهنة – الذى هو جزء من المؤسسة الآفلة – في الطقوسية والطقوس. وسأتناول ذلك بأمثلة بارزة عبرت عنها هذه الاحزاب والتحالفات، بمافي ذلك ما عرف بحكومة بورسودان وتحالف تأسيس وحكومته، ثم قحت /تقدم/صمود، ثم التغيير الجذري/الحزب الشيوعي. بل سأتناول شهادات ونظرات كتاب مرموقين ومحترمين -في نظري وتقديري – عبروا عن انخراطهم في هذا المولد الطقوسي. في الواقع هو مأتم طقوسي وليس بمولد الطقوسي.
أولا، ماذا حدث بين البرهان وحميدتي؟
الطقوسية تتطور تدريجا ولا تسيطر على مؤسسة ما على نحو مباغت. لها جذور غائرة وإنسياب كالساعة الرملية في شراين واوردة المؤسسة. ولكن هنالك سمة غالبة في لحظات تطورها الاخيرة يمكن رصدها بل لمسها بكل وضوح وهي تعدد المراكز في السلطة. لننظر لوهلة لتجربة حميدتي والبرهان وجذورها وتطورها وخواتمها:
أدي اعتماد منهج القوة العسكرية والحل الأمني من أجل التقليل والسيطرة على تعقيدات مجتمع بالغ التعقيد لم يتمكن من الإجابة على سؤال قسمة الثروة والسلطة، إضافة لسؤال الهوية القومية، الى ظهور مراكز متعددة غير منسجمة في شبكة السلطة الأساسية منذ حرب دار فور 2003، وأدت اجراءات هي في حد ذاتها طقوسية – اوامر رئاسية، تشريعات برلمانية وقوانين، منح رتب عسكرية ومناصب، امتيازات اقتصادية، وسلطات رسمية وغير رسمية، تراخيص تعدين..الخ – الى ترسيخ تراتبية جديدة في مركز السلطة وظهور مركز جديد في السلطة بدأ في التبلور شيئا فشيء. تمثل ذاك المركز في النهاية في قوات الدعم السريع. أنحدر مقام الجيش كمنظمة، رغم انه لا يزال موجودا كمركز من مراكز السلطة. بسبب تلك السياسات التي إنتهجها البشير وحزبه.
صارت هنالك منظمة جديدة شكلت مركزا آخرا جديدا في السلطة (الجميع هنا يذكر خطبة حميدتي حول الجيش والبلد وبلفها واعتقال المرحوم السيد الصادق المهدي الذي تنبه للخطر المحدق بالوطن، وللاسف تنبه الصادق الصادق متأخرا عندها، مثله مثل اخوانه النجباء من تلاميذ المؤسسة السودانية -دائما يأتوا متاخرين – ابتدأ من أحمد خير ومحمد أحمد المحجوب وشوقي ملاسي وعلى محمود حسنين وعبد الخالق محجوب وحسن عبد الله الترابي والشريف الهندي ومحمود محمد طه..الخ ). لكن لنقف هنا لوهلة، اليس اعتماد الحل الأمني والقوة العسكرية هو نفسه النهج الذي تم اتخاذه تحت ظل نظام ديمقراطي بين الاعوام 1986 و1989 في خضم الحرب ضد القومية الجنوبسودانية فيما عرف بتكوين وتجييش ما عرف بقوات المراحيل؟ الم يكن المرحوم السيد الصادق المهدي نفسه رئيسا للوزراء؟ الم يجلب مولانا محمد عثمان الميرغني راجمات صدام حسين لتحرير الكرمك وقيسان؟ الم تكن سياسة تجييش المراحيل نفسها تطويرا لسياسة القوات الصديقة التي انتهجها نظام نميري في قتاله ضد الحركة القومية الجنوبسودانية؟ هذا فقط للقول ان انحدار اي مؤسسة نحو الطقوسية لا يحدث بغتة، إنما هو سيرورة (Process). وهذا فقط للقول أن المؤسسة معطوبة منذ البداية، بالمدنيين والعسكريين على حد السواء.
إزداد الوضع تعقيدا مع انتفاضة ديسمبر والوثيقة الدستورية و(تعديلاتها) واستوت هنا مراكز السلطة المتعددة وتراتبيتها في تركيبة المؤسسة، بمافي ذلك المدنيين – رغم هامشيتهم – وتحالفاتهم واحزابهم التي اتت وهي ايضا غارقة الى الركب في مستنقع الطقوسية.
هنا، مع غرق مركب المؤسسة السودانية في الطقوس وتعدد مراكزها المسلحة، لم يعد الانقلاب العسكري التقليدي ممكنا -تحريك المدرعات، قفل الكباري في العاصمة، تأمين الاسلحة والفروع واحتلال الاذاعة وإذاعة البيان رقم واحد. لم يعد ذلك ممكنا لإختلال ميزان القوى القديم ، حيث لم يعد الأمر عسكريين في مواجهة مدنيين. لذلك قام تحالف البرهان وحميدتي بتنكب انقلاب 25 أكتوبر 2021 في محاولة اخيرة لترتيب بيت السلطة. القصة القديمة نفسها: لإنقاذ البلاد.
عندما تنكب البرهان وحميدتي مركب الإنقلاب كانت المؤسسة قد أكملت انحدرها نهائيا لتصير مؤسسة طقوسية وبالتالي مؤسسة (Sclerotic) جامدة غير قابلة للتكييف والتأقلم حتى بين الحلفاء المؤقتين. مؤسسة اكتملت واستوت سمتها الاساسية وهي السباق نحو السلطة. وذلك في الحقيقة يكمن في صلب…. بل هومحرك مؤسسة الانقلاب. يقترن بذلك ما يعرف ب (myopic hyper-rationality) العقلانية المفرطة والتي لا يمكن مع سيطرتها على الفاعلين انجاز اي تعاون مؤسسي على الاطلاق، حيث لا ينظر الفاعلون الاساسيون الا الى الربح السريع المتصور. وهنا ايضا يجب الاصرار على انها ليست فقط سمة العسكريين بل تنبع من قلب المؤسسة السياسية السودانية ككل ويتشترك المدنيين معهم في هذه السمة. لكن إن كان للمدنيين ادوات وحيل ماكرة للقفز فوق قواعد واحكام الدستور والمواثيق ولى عنقها بل كسرها واستستفاه أعلى سلطة قضائية في البلاد وضرب الحائط باحكامها، فإن بيد العسكريين السلاح وهم دائما (trigger-happy) والأسرع لاستعمال العنف، ولكن في نهاية الأمر النتيجة واحدة: مؤسسة آفلة.
للنظر الى خبرة الرجلين، البرهان وحميدتي، على ضوء خبرة مؤسسة الانقلاب العسكري ككل: استنفذ عبود ونميري والبشير والبرهان كل رصيد الثقة في تعهدات الانقلابيين. خذ على سبيل المثال في حقبة حكم عبود انقلاب، تجربة الاميرالي عبد الرحيم محمد خير شنان والاميرالي محي الدين أحمد عبد الله الذي تحرك من شندي والقضارف وأجبر المجلس العسكري الأعلى آنذاك الى إجراء تعديلات في هيكله. ادى ذلك الانقلاب الى تعديلات مؤقتة في المجلس العسكري الأعلى واحتواء شنان ومحي الدين بتعينهم في مجلس الإنقلاب. وبعد ذلك تم الغدر بقائدي الانقلاب والتخلص منهما. خذ تجربة جعفر نميري ايضا: اجراءات 16 نوفمبر 1970 بإستبعاد الشيوعيين من مجلس قيادة الثورة، ومن ثم إنقلاب الشيوعيين في 19 يوليو 71. خذ بعد ذلك تجربة المدنيين المؤيدين والمعارضين لنظام جعفر نميري: عطف الأخوة الجمهوريين بقيادة الاستاذ الشهيد محمود محمد طه على نظام مايو وعدم معارضته وبعد دخول طقوسية جعفر نميري اللحم الحي في نظر الفكر الجمهوري تحولوا الى المعارضة ليعدم الشهيد محمود محمد طه في غمضة عين على ايدي قضاة غارقين في طقس الإمام المجدد جعفر نميري. خذ المعارضة المسلحة والمصالحة الوطنية 1977، ثم الزج بالأخوان المسلمين الحليف الوحيد المتبقي لنظام مايو في السجون في اوائل 1985. أنظر لتجربة البشير وحزب الدكتور المرحوم حسن عبد الله الترابي: المفاصلة 1999 والاقتراب من إعدام الدكتور الترابي والتضحية به “تقربا لله” كما زعم البشير ويا لها من تضحية طقسية تصورها دكتاتور وافر الثقة بمنظمته العسكرية والمدهش إنه هو نفسه قام بتحطيم هيبتها بعد سنوات قليلة. وهذا سيكون بالمناسبة نفس مصير الحركات المسلحة الموقعة على ما عرف بإتفاق جوبا والمدنيين المتعاونيين مع البرهان اليوم والحركات المسلحة والمدنيين المتعاونيين مع حميدتي اليوم.
ما يحدث الآن أن مؤسسة الإنقلاب، من قبل الجانبين: الجيش والدعم السريع، التي كانت فيما قبل جزء من المؤسسة السياسية السودانية – سواء أن كانت مؤسسة الإنقلاب مؤسسة رسمية او غير رسمية، مسكوت عنها ك(كعصاة مدفونة)، او مشهرة كهراوة رسمية بكل سلطاتها– تحاول الآن مؤسسة الإنقلاب أن تبتلع المؤسسة السياسية السودانية ككل بكل احزابها وتحالفاتها. الأدهى أن المدنيين يساعدونها في ذلك. ليس ذلك لان هنالك رجال ونساء أشرار واحزاب شريرة، بل لأن الجميع وقع في فخ مؤسسة طقوسية ذاهبة نحو الفناء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..