مقالات وآراء

هوبز ولوك بعد عام 1945: مقارنة في استدامة الأمن والاستقرار والتنمية الاقتصادية

محمد العريان

المقدمة
يمثل العصر الذي تلا الحرب العالمية الثانية مختبرًا غنيًّا لمقارنة نظريتي توماس هوبز وجون لوك في فهم أصل السلطة وأسس السلم الأهلي. فقد سعى الفيلسوفان إلى تفسير طبيعة الحكومة ودورها في منع الفوضى، لكنهما اختلفا جذريًا في الأساس الأخلاقي لنظام الحكم ونطاق سلطته.
رأى هوبز أن الدولة القوية المطلقة – «الليفياثان» – هي الضامن الوحيد للنظام، في حين اعتبر لوك أن الحكومة الشرعية هي تلك القائمة على الرضا الشعبي والحقوق الطبيعية، وأن السلطة يجب أن تكون محدودة بالقانون.
ومنذ عام 1945 ظهرت هاتان الرؤيتان في الممارسة الواقعية: فالدول الهوبزية مثل الاتحاد السوفييتي والصين ودول استبدادية أخرى ركّزت على فرض الاستقرار بالقوة، بينما سعت الدول اللوكية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وشرق آسيا إلى تحقيق النظام من خلال الحرية والديمقراطية.
ويهدف هذا التحليل إلى المقارنة بين النموذجين من حيث قدرتهما على تحقيق الأمن والاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية المستدامة.

1. الأمن: القوة الفورية مقابل المرونة الطويلة الأمد
تُحقق الأنظمة الهوبزية عادة أمنًا داخليًا سريعًا ومتينًا عبر السيطرة المركزية وقمع المعارضة. فقد جسّد نظام ستالين في الاتحاد السوفييتي، وماو في الصين، وفرانكو في إسبانيا، هذا النوع من «الأمن المفروض»، حيث تراجعت الاضطرابات الداخلية ولكن بثمن باهظ من الحريات الفردية.
إلا أن هذا الأمن كان ثابتًا لا مرنًا؛ إذ اعتمد على الخوف كآلية دائمة للضبط. ومع ضعف أدوات القسر أو تراجع هيبة السلطة (خصوصاً عند فشل مؤسساتها)، انهار النظام سريعًا كما حدث في الاتحاد السوفييتي عام 1991 أو في إندونيسيا بعد سقوط سوهارتو أو في مصر بعد مبارك.
أما الدول اللوكية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أوروبا الغربية، فبنت أمنها على الشرعية والقبول الشعبي لا على الخوف. وقد أثبت هذا الأمن أنه أكثر قدرة على الصمود، لأنه يستند إلى الثقة في المؤسسات والقانون. فعلى الرغم من الاضطرابات السياسية (كحركات الحقوق المدنية في أمريكا أو احتجاجات 1968 في فرنسا)، فإن النظام العام لم ينهَر.
باختصار:
• الأمن الهوبزي: قوي ما دام القمع قائمًا، لكنه ينهار عند تراجع الخوف.
• الأمن اللوكي: يتعرض لهزّات متكررة، لكنه يتجدد عبر الشرعية والثقة.

2. الاستقرار السياسي: النظام القسري مقابل النظام التكيفي
ينبع الاستقرار في الأنظمة الهوبزية من الجمود المؤسسي؛ إذ يمنع تركّز السلطة أي تنافس سياسي أو تغيير غير متوقع، ما يضمن استمرار النظام لفترة طويلة. إلا أن هذا الاستقرار يكون هشًّا في جوهره، لأن أي محاولة للإصلاح تهدد بتقويض البنية بأكملها. لقد حافظ الاتحاد السوفييتي والصين الماوية على الاستقرار لعقود، لكنهما واجها خطر الانهيار عند أول إصلاح جوهري.
أما الأنظمة اللوكية فتبدو أكثر اضطرابًا ظاهريًا، لكنها تمتاز بـ المرونة التكيفية. فهي قادرة على امتصاص الصراع عبر الآليات الديمقراطية مثل الانتخابات وتداول السلطة. وقد شهدت الولايات المتحدة واليابان وأوروبا الغربية تغييرات سياسية كبرى منذ 1945 دون انهيار النظام.
وكما أشار صموئيل هنتنغتون، فإن استقرار الديمقراطية لا يقوم على غياب الصراع بل على مأسسة الصراع. ففي حين تكبت الأنظمة الهوبزية الخلاف، تديره الأنظمة اللوكية ضمن إطار قانوني. ولهذا أثبت النموذج اللوكي تفوقه في المدى الطويل.

3. التنمية الاقتصادية: التحكم مقابل الإبداع
يُظهر الاقتصاد المقارنة الأوضح بين النموذجين.
فالأنظمة الهوبزية حققت نموًا سريعًا في المراحل الأولى بفضل التخطيط المركزي والتعبئة القسرية للموارد — كما في خطط ستالين الخمسية أو برامج ماو الإنتاجية أو نموذج لي كوان يو في سنغافورة. فقد سمح تركّز القرار بتحقيق قفزات في التصنيع والبنية التحتية.
لكن هذه الأنظمة غالبًا ما تصل إلى مرحلة ركود حين تتطلب التنمية اللاحقة حرية المبادرة والابتكار. فالاتحاد السوفييتي جَمُد اقتصاديًا في السبعينيات، واضطرت الصين إلى إصلاحات سوقية بعد ماو، كما انفتحت إندونيسيا اقتصاديًا بعد سوهارتو.
في المقابل، حققت الاقتصادات اللوكية — القائمة على حماية الملكية الخاصة وتحرير الأسواق — نموًا متدرجًا لكنه مستدام. فالولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان بعد الحرب أثبتت أن الحرية الاقتصادية المقننة تؤدي إلى تراكم الابتكار والثروة على المدى الطويل. حتى في أوقات الأزمات (مثل أزمة السبعينيات)، استطاعت تلك الأنظمة التكيف والإصلاح دون انهيار.
إذن، تحقق الأنظمة الهوبزية انطلاقة تنموية سريعة، لكن الأنظمة اللوكية تؤمّن ازدهارًا طويل الأمد بفضل الإبداع المؤسسي.

4. الشرعية والعقد الاجتماعي
يكمن الفارق الأعمق بين النموذجين في منبع الشرعية السياسية:
• في النظام الهوبزي، الشرعية عمودية؛ تصدر من الأعلى إلى الأسفل، وتستند إلى قدرة الدولة على فرض النظام ومنع الفوضى.
• في النظام اللوكي، الشرعية أفقية؛ تنبع من رضا المواطنين ومشاركتهم في الحكم.
تؤدي هذه الفوارق إلى نتائج مختلفة في الاستدامة: فالأنظمة الهوبزية تظل مستقرة حتى تفشل، بينما الأنظمة اللوكية قادرة على تصحيح ذاتها. فالاتحاد السوفييتي لم يستطع الإصلاح دون أن ينهار، في حين تجدّد فنلندا مؤسساتها دوريًا عبر الانتخابات والإصلاحات القانونية.

5. مقارنة في النتائج منذ عام 1945
https://drive.proton.me/urls/81XGYWHX1C#9ditVl0dSfmB

6. النماذج الهجينة والتقارب بين المدرستين
ظهرت في العقود الأخيرة أنظمة تمزج بين النموذجين:
• الصين في عهد دنغ شياو بينغ ثم شي جين بينغ تجمع بين التحكم السياسي الهوبزي والاقتصاد الليبرالي القائم على السوق.
• سنغافورة مثّلت نموذجًا لـ «الليفياثان التكنوقراطي»، حيث تُدار الدولة بسلطة مركزية صارمة، ولكن ضمن إطار قانوني وكفاءة مؤسسية عالية.
تُظهر هذه النماذج أن الفاصل بين هوبز ولوك ليس مطلقًا؛ إذ تميل الأنظمة الحديثة إلى الموازنة بين الاستقرار السلطوي والفعالية الاقتصادية الليبرالية.

الخاتمة
منذ عام 1945 أثبتت الأنظمة الهوبزية قدرتها على فرض النظام وتحقيق تنمية سريعة، لكنها فشلت غالبًا في الحفاظ على الشرعية والابتكار على المدى الطويل. في المقابل، ورغم ما تعانيه الأنظمة اللوكية من اضطرابات متكررة، فإنها أثبتت قدرتها الأعلى على استدامة الأمن والازدهار والتجدد المؤسسي.
وباختصار، يقدم النظام الهوبزي التحكم دون الاستمرارية، بينما يحقق النظام اللوكي الاستمرارية من خلال الرضا الشعبي. وتشير التجربة التاريخية الحديثة إلى أن معادلة هوبز — الأمن مقابل الطاعة — قد تؤمّن الاستقرار مؤقتًا، لكن العقد اللوكي — الحرية في ظل القانون — هو الذي يضمن بقاء المجتمعات قوية ومتجددة عبر الزمن.
المراجع
• توماس هوبز: الليفياثان.
• جون لوك: مقالتان في الحكومة المدنية.
• صموئيل هنتنغتون: النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة.
• دوغلاس نورث: المؤسسات والتغير المؤسسي والأداء الاقتصادي.
• فرانسيس فوكوياما: أصول النظام السياسي.
• دارون عجم أوغلو وجيمس روبنسون: لماذا تفشل الأمم.
• لاري دايموند: روح الديمقراطية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..