
تمهيد: الضمير في زمن التيه
في خضمّ الدمار والتهجير والدماء، يعلو سؤال يتردّد في ضمير كل سوداني:
هل ما زال فينا ذلك الوجدان الذي كان يجمعنا رغم اختلافنا؟
أم أن الحرب قد أخذت ما تبقّى من إنسانيتنا ودفنته تحت الركام؟
الضمير ليس مجرد شعور بالذنب، بل هو البوصلة التي تهدي المجتمعات حين تضلّ طريقها.
والسودان اليوم يقف على مفترق بين صحوة الضمير وسقوط الذاكرة الأخلاقية.
أولًا: الضمير الشعبي – جذوة لا تنطفئ
رغم انكسار الدولة وتفكك البنية المؤسسية، ظل الإنسان السوداني في جوهره نبيلاً.
في الأسواق المهدّمة والمخيمات المنسية، نهضت مبادرات من القاع،
يقودها شباب ونساء يجمعون الطعام والدواء، يحمون الأطفال والجرحى،
ويقولون للعالم إن الإنسانية لم تغب عن هذا الوطن.
إنّ هذه المبادرات لم تصدر من سلطة أو حزب، بل من ضميرٍ جمعيٍّ يرفض الاستسلام.
وهي تشبه في رمزيتها نار “الكرامة السودانية” القديمة، التي تحترق لتمنح الدفء لا الدمار.
«حين يعجز السلاح عن إنقاذ الوطن، ينهض الضمير ليحمل ما تبقّى من إنسانيته.»
ثانيًا: الضمير السياسي – الغائب الأكبر
في المقابل، تاهت النخبة السياسية بين حسابات السلطة وضجيج الخطاب.
بدل أن تعترف بمسؤوليتها التاريخية، انشغلت بتوزيع اللوم وإعادة إنتاج الانقسام.
لم يُسمع صوت واحد يقول بصدق: أخطأنا.
لم نرَ من يتقدّم الصفوف ليعتذر للشعب أو للضحايا.
وهكذا ظلّ الضمير السياسي أسير الخوف والأنانية والإنكار.
السياسة في معناها الأخلاقي هي فنّ تحمّل المسؤولية لا تبريرها،
لكن في السودان تحوّلت إلى ساحة يتقدّم فيها من يملك القوة لا من يملك الضمير.
ثالثًا: الضمير الثقافي والاجتماعي – بين الصدمة وإعادة التكوين
الحرب عرّت هشاشتنا، لكنها كشفت أيضًا عن لحظة نادرة من إعادة التفكير في معنى الوطن.
جيل جديد من السودانيين بدأ يسأل بصوتٍ عالٍ:
من نحن؟
ما الذي يوحّدنا؟
وأيّ قيمٍ يمكن أن تبني سلامًا لا ينهار في أول اختبار؟
هذا الجيل لا يريد تكرار خطاب الكراهية، بل يبحث عن وجدانٍ جديد،
يُعيد تعريف السودانية بوصفها انتماءً إنسانيًا قبل أن تكون انتماءً قبليًا أو جغرافيًا.
إنّ الضمير الثقافي الآن في مرحلة “الوعي المؤلم”،
تمامًا كما تمرّ الأمم في فترات التحوّل الكبرى قبل أن تولد من جديد.
خاتمة:
نحو ضميرٍ وطنيٍّ جديد
الضمير السوداني لم يمت، بل ينهض ببطء من تحت الرماد.
لكنه يحتاج إلى شجاعة الاعتراف، وصدق الغفران، وعدالة لا تعرف الانتقام.
إنّ صحوة الضمير ليست حدثًا سياسيًا، بل مسارًا أخلاقيًا يبدأ من الفرد وينتقل إلى المجتمع.
وحين يتفق السودانيون على أن كل الدم حرام،
وأن لا أحد يملك هذا الوطن أكثر من الآخر،
عندها فقط يمكن القول:
لقد استيقظ الضمير السوداني، وبدأ فجر السودان الإنساني الجديد.
هوامش فكرية
• الضمير هو البنية الخفية التي تحفظ وحدة الأمة حين تسقط مؤسساتها.
• الاعتراف بالذنب أول الطريق نحو الغفران الجماعي.
• لا وطن بلا ذاكرة، ولا سلام بلا ضمير



