مقالات وآراء

هل يخطط مناوي لاجتياح الشمالية؟ متى وكيف؟

د. الوليد آدم مادبو

مني أركو مناوي لم يخض هذه الحرب باندفاع الأحمق ولا بإيمان الأبطال، بل بحساباتٍ دقيقةٍ لرجلٍ لا يرى في الوطن سوى مساحةٍ للتفاوض على البقاء. فهو يدرك أن *خياره ليس بين النصر والهزيمة، بل بين الفناء والمقايضة*. ومن ثمّ، لم يكن تمركزه في ولايتي الشمالية ونهر النيل عارضاً ولا تكتيكاً عسكرياً محدوداً؛ بل خطوة استباقية لتأمين الورقة الأخيرة في لعبةٍ طويلةٍ عنوانها الحقيقي: *تحوّل الولاء الوطني إلى صفقة وجودية*.

لقد أدرك مني مبكراً أن الجيش، بما هو عليه من تفسخٍ وانقسام، لن يصمد طويلاً في معركةٍ تُدار بلا عقيدة. ورأى في تهاوي مركز القرار، وفي انكشاف البرهان على المسرح الداخلي والخارجي، فرصةً لتثبيت موطئ قدمٍ يفاوض به عند *لحظة الانهيار الكبرى*. فهو يعلم أن الشمالية، وإن كانت بلا قيمة عسكرية حقيقية، تظل ذات رمزيةٍ سياسيةٍ وثقلٍ تفاوضيٍّ محتمل، ومحطة يمكن السيطرة عليها بأقل الخسائر وتحويلها إلى رهينةٍ جغرافية تحفظ له مكاناً على الطاولة حين تبدأ الصفقات.

إن تردده في خوض معركة بمحلية أمدرمان لن يكون ضعفاً ولا حذراً عسكرياً بريئاً، بل استشعاراً لورطةٍ استراتيجية. فالرجل يدرك أن *دخوله العاصمة الأن سيضعه بين فكي كماشة*: جيشٍ مترنحٍ لكنه باقٍ في شرق النيل، ودعمٍ سريعٍ لا يتوانى في تطهير جيوب خصومه من غرب النيل. وإنه ليعلم أن الانتحار في أمدرمان يعني نهاية كل ما بناه من نفوذٍ ومكاسبٍ في دارفور والمركز، وأن البقاء في المناطق الآمنة أجدى من بطولةٍ رمزيةٍ لا تُطعم جائعاً ولا تُنقذ قائداً.

وهكذا وقف مني عند تخوم المعركة كمن يوازن بين خيارين أحلاهما مرّ: أن يموت مع البرهان في بورتسودان، أو أن ينقلب عليه في لحظةٍ محسوبةٍ ليحيا وحيداً في صحراءٍ بلا مبدأ. ومن يتتبع خطاباته الأخيرة يدرك أنه بات يهيئ لهذا التحوّل: يخفف من لغته العدائية، يرفع نبرة النقد للجيش، ويبعث بإشاراتٍ مبطنةٍ عن *ضرورة “الحل السياسي”*. تلك ليست دعواتٍ للسلام، بل محاولاتٌ لبناء جسرٍ نحو صفقةٍ جديدة تُعيد إنتاجه في المشهد بوجهٍ أقل عسكرية وأكثر براغماتية.

بهذه الحسابات الباردة، يتحرك مني اليوم لا بوصفه قائداً وطنياً، بل بصفته مرتزقاً بارعاً في استخدام كل شيء: القبيلة، الجغرافيا، الشعارات، والمعاناة الإنسانية. *إن تسليحه للنساء والأطفال في الفاشر لم يكن تصرفاً عاطفياً، بل إعلاناً صارخاً بانهيار الفارق بين المواطن والمقاتل*، بين المجتمع والميليشيا. إنه يجرد الحرب من معناها الأخلاقي الأخير، ليحولها إلى صفقةٍ وجوديةٍ خالصة: من ينجو يُعتبر محقاً، ومن يُقتل يُعتبر ساذجاً.

وهنا تتضح مأساة السودان في مرآة هذا الرجل: أن الولاء الوطني الذي كان يوماً عقد شرفٍ بين الإنسان وأرضه، تحوّل إلى سلعةٍ تفاوضيةٍ في سوق الفناء. وأن القائد، حين يفقد بوصلته الأخلاقية، يصبح *مجرد مرتزقٍ يساوم على أنقاض الوطن*.

لقد دخل السودان، على يد قادته الجدد، مرحلةً غامضةً من التاريخ، لم يعد فيها الانتماء فعلاً وجدانياً ولا التزاماً أخلاقياً، بل غريزة بقاءٍ تُحرّكها المصالح، وتُعيد تعريف الوطن وفق منطق المأوى لا الرسالة. *كان الولاء، في الذاكرة القديمة، عهداً بين الإنسان وأرضه، بين الجماعة ومصيرها*، أما اليوم فقد انقلب إلى صفقةٍ بين المقاتل وظله: من يحمي من؟ الوطن أم الفرد؟ ومن يستحق الحياة حين تتحول الدولة إلى خندقٍ، والشعب إلى مادة تفاوضٍ؟

هكذا انحرف المعنى من قداسة الانتماء إلى عبث الارتزاق. صار الانتماء امتيازاً لا واجباً، والوطن مساحةً لمن يملك السلاح لا لمن يصون الحق. وهذه هي *المأساة الكبرى*: أن يتحول الولاء من فعلٍ إنسانيٍ حرّ إلى استجابةٍ غريزيةٍ لضغط البقاء، وأن يصبح القائد مرآةً لعصرٍ فقد إيمانه بذاته.

ختامًا، إن *نجاة السودان لن تكون بانتصار فصيلٍ على آخر، بل باستعادة المعنى الأول للانتماء* — أن تكون الوطنية شجاعةً في مواجهة الذات، لا مهارةً في اقتناص الفرص. فحين يتحرر الإنسان من *منطق “الصفقة”*، ويستعيد قدرته على الاختيار الأخلاقي، فقط عندها يمكن أن نأمل في ميلاد وطنٍ لا يُدار بعقل المرتزق، بل بروح الإنسان.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..