
أثارت تصريحات الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة قائد الجيش السوداني في الأيام الفائتة، حول الموقف من التفاوض على أسس مبادرة دول مجموعة الرباعية، جدلا في خضم مسارات الحرب وتطورها على الصعيد العسكري والسياسي، فقد سبقت هذه التصريحات زيارة خاطفة منتصف هذا الشهر إلى مصر، التي تشكل إحدى دول المبادرة لحل الأزمة السودانية الجارية منذ عامين ونصف العام. وبينما أشارت بعض من التقارير الصحافية إلى أن تصريحاته الأخيرة في الداخل تناقض ما اتفق عليه في مصر، من الموافقة على التفاوض.
والتفاوض المعني لا يعدو أن يكون أكثر من العودة إلى مائدة المفاوضات، مع الطرف الذي يتقاتل معه. ومع أن الخطاب السياسي الرسمي، وما شهده الموقف الحكومي الداخلي، اتجه من خلال تصريحات المسؤولين السودانيين نحو التفاوض المؤدي إلى السلام، الذي لا يعني بطبيعة الحال سلاما تفرضه هزيمة عسكرية ساحقة، وإنما تفاوض تفرضه آلية الرباعية، التي يزداد ضغط دولها منذ أن أعلنت عن خريطة طريقها منتصف سبتمبر الماضي.
وما يعقّد الموقف بشقيه العسكري والسياسي السوداني، تعدد أطراف الأزمة إلى حد التضارب بين القرار السياسي والتقدير السياسي وأولوية الحاجة للسلام. ولأن هذا التعدد الذي خلقته الأزمة نفسها قد عدّد أطرافها الإقليمية والدولية، على اختلاف وزن البلدان ذات العلاقة بالحرب الجارية والمؤثرة بشكل مباشر فيها، ولم تعد قوة منفردة بإمكانها الاستمرار في الحرب، أو جعل السلام خيارا ممكنا، وينطبق هذا الأمر على طرفي الحرب. ولكن يبقى الموقف الداخلي الحاسم في معادلتي الحرب والسلام، وهو موقف على ما يحيط به من غموض واستمرار لمعارك عبثية، إلا أن من غيره لا يتوقع أن تُحدث التدخلات الخارجية، أثرا ذي بال في وقف الحرب، أيا يكن النفوذ السياسي المدعوم خارجيا، أو العسكري لطرفي القتال. وبالعودة إلى مبادرة الرباعية التي أعلن الجنرال البرهان رفضه المطلق لها ولغيرها، كما جاء في تصريحه، يتم التنسيق بينها (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات) بما يتجاوز نصوص البيان ببنوده الخمسة، الذي يهدف كما أطلقت عليه المجموعة «استعادة الأمن والسلام في السودان» إلى تقاطعات مسارات الحرب نفسها، وما خلقته من وضع جديد لم تعد الحكومة، الطرف الأوحد في ترجيح موازين معركة الحرب. وبما أن الجنرال البرهان لم يفصح عن الأسباب في تصريحه الجماهيري، إلا أنه منذ بدايات انطلاق مبادرة الرباعية، دارت نقاط خلافية حول بنودها، ورفض لوجود دولة الإمارات ضمن المجموعة نفسها، التي تتهمها الحكومة بالوقوف إلى جانب قوات الدعم السريع، وغيره من اتهامات على نحو ما شهدته التوترات في العلاقة بين البلدين. وبدا أن الحكومة في موقفها تستند إلى الموقف المصري وما يمليه من سياسيات أكثر من دول المجموعة الأخرى، وإن يكن وجود الولايات المتحدة هو الراجح في الضغط على الطرفين دون غيرها لأسباب معلومة.
ما يجري داخل السودان بعد تصاعد المواجهات العسكرية، وضبابية المواقف السياسية، ستترتب عليه نتائج لم تعد بعيدة التوقع عن الأثر المباشر على وحدة البلاد وتماسك نسيج اجتماعها
ماذا يجري في السودان؟
ومن جانب آخر، استمرت الحرب مؤخرا على بعد المسافات، اعتمادا على تكنولوجيا الطائرات المسيرة من قبل الطرفين، لضرب أهداف غالبا ما تكون غير محددة الدقة، تسببت في تدمير منشآت ووقوع ضحايا. وقد صرّح قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو في خطاب مبثوث، بضرب المطارات التي تنطلق منها المسيرات واعتبارها هدفا مشروعا، وليس حصرا على المطارات الداخلية، بل بما يشمل مطارات الدول. والمسيرات سلاح يستخدمه الدعم السريع على نطاق واسع كسلاح وحيد بحوزته، يستخدم جويا فيما يتفوق الجيش بالطيران التقليدي الأكثر تدميرا. ويعد هذا التصريح في ظل الأوضاع الكارثية الحالية، تصاعدا جديدا على جبهة القتال، مما يخلق تغييرا ليس مفاجئا إلا بقدر ابتعاده عن أدنى خطوات المضي تجاه السلام. وينطلق موقف الدعم السريع معززا من موقفه في دارفور، واتخاذها قواعد على أسس شبه حكومية لدولة مفترضة «حكومة تأسيس». وهي ظروف مستجدة لا تريدها الحكومة القائمة، بما يبرر لها الاستمرار في الحرب وصولا إلى هزيمة ساحقة تبدو عصية على الأقل في الحاضر.
وحيث إنه لم يعد أحد طرفي النزاع يملك تصورا لحلول سياسية، أو عسكرية على كثافة التصريحات السياسية والعسكرية، تزداد فيه المعاناة الإنسانية بين السكان من المجاعة والأوبئة المنتشرة، وتعطيل للعمل الإنساني بالحصار والمهددات الأمنية الأخرى، التي نشطت في مناطق الحرب. وقد تبين أن طرفي الصراع في مواجهاتهما العسكرية المستمرة، لا يوليان اهتماما بالجانب الإنساني في تجاوزات وثقتها المنظمات الإنسانية، بل استخدمت الجهود والمعونات الإغاثية ضمن وسائل الحرب والحصار.
وإزاء هذه المواقف المترددة من التوافق، بين الضغط الذي تمثله مبادرة الرباعية، للتوصل إلى صيغة سلام ينتج عنها اتفاق الطرفين بالعودة إلى تفاوض يحقق الحل الدائم للسلام، وينهي معاناة السودانيين، وضغط آخر تواجهه حكومة الأمر الواقع، يتمثل في طبيعة تشكلها وتحالفاتها الداخلية بين شتيت مكونات عسكرية وسياسية، تشاركها الحرب وتتنازع معها على النفوذ والسلطة، ولا ينسي الأثر الكبير لضغوط اجتماعية أخرى أفرزتها الحرب تحكمها روح الانتقام، جراء ما لحق بها من اعتداءات في الحرب. كل هذه العوامل وغيرها تفرض الآن واقعا منقسما في الموقف من وقف أو استمرار الحرب تفاوضيا، وفي هذه الحال ليس أمام الطرفين الجيش ممثل الدولة والدعم السريع الطرف الآخر في معادلة الحرب، إلا الامتثال إلى ما تفرض حقائق الواقع، الذي لم يعد محتملا، حتى لو تطلب الأمر تنازلا اضطراريا عن كثير مما شكل الذرائع المسوغة للاستمرار في الحرب.
إن ما يجري داخل السودان بعد تصاعد المواجهات العسكرية، وضبابية المواقف السياسية، ستترتب عليه نتائج لم تعد بعيدة التوقع عن الأثر المباشر على وحدة البلاد وتماسك نسيج اجتماعها. فالعودة بالدولة إلى ما قبل الحرب بعد توغلها الجغرافي الواسع، وصلت إلى نقطة اللاعودة مع تشديد كل المبادرات المطروحة على وحدة السودان، بما فيها الرباعية التي أكدت في أول بنودها على سيادة السودان ووحدته وسلامة أراضيه ضرورية لتحقيق السلام والاستقرار. وهذه التصورات على بعدها من تحليل الواقع، لا توفر غطاء يضمن السيادة في مفهوم الدولة القومية، أو إزاحة القوة التي صعدت بالحرب على قمة الواقع السياسي. وهذه الخريطة الجديدة تعكس واقعا لم تأخذ به القوى الدولية والإقليمية، في سعيها لإحلال سلام ينشأ في إطار قانوني وسياسي جديد.
وأيا تكن المبررات التي يسوقها كل طرف في موقفه العسكري تجاه الحرب أو السلام، من واقع إمكانياته وما يتاح له من استخدامها، تظل رهينة بمواقف يتم تقديرها خارجيا. وهذا واحد من المآزق التي تورطت فيها كل أطراف الحرب، حيث فتحت للخارج منافذ ينفذ من خلالها، ما جعل الأزمة السودانية صراع مصالح مفتوحا على مصراعيه، ولم تزل الأطراف نفسها مستعدة للتنازل بأكثر مما يطلب منها في سبيل تحقيق، ليس فقط ما يخدم أجندات الحرب أو السياسة، بل حتى المصالح الشخصية. فالدول العربية على وجه التحديد، التي ترتبط بالأزمة السودانية على نحو أو آخر تميل إلى اتباع سياسات متأرجحة بين الموقف الصريح ممالأة لأحد الطرفين، أو العمل عن طريق قنوات سرية تكشف عنها طبيعية التنسيق القائم وردود الأفعال تجاه انعكاسات الحرب. وهكذا يتم التداول في الشأن السوداني الذي يشهد تدهورا وبات عصيا على الحل والتوصيف كأزمة تدخل فيها كل ويلات الحروب ونزاعا داميا تدخل فيه كل العوامل على مستوى الأصعدة الإقليمية والدولية بما يعني دولة في طريقها إلى الانقسام أو الزوال.



