نازحو الفاشر… مآسٍ في الطريق إلى طويلة

لا تنتهي فصول الحرب القاسية في السودان المتواصلة منذ أكثر من عامَين ونصف عام، ولعلّ ما تشهده مدينة طويلة التي تستقبل النازحين من الفاشر أخيراً يُعَدّ من بين الأشدّ قساوة.
قبل أقلّ من أسبوع، سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور غربي السودان، بعد حصار طال، تعرّض في خلاله سكان المدينة والنازحون إليها في المخيمات للتجويع والقصف المستمرّ، وكذلك لأبشع أنواع الانتهاكات التي سُجّلت أخيراً. ودفع ذلك آلاف المدنيين إلى النزوح نحو مدينة طويلة، الواقعة على مسافة 68 كيلومترا إلى الغرب من مدينة الفاشر المستهدفة، هرباً من انتهاكات إضافية تُرتكَب بحقّهم.
واجتاز كثيرون من النازحين مسافات طويلة سيراً على الأقدام، ليصلوا منهكين إلى طويلة التي تحوّلت إلى ملاذ لهؤلاء الذين تمكّنوا من النجاة بصعوبة، في مشهد يعكس حجم المعاناة التي تعرّضوا لها مع احتدام المعارك في الفاشر، علماً أنّ هذه المدينة التي كانت أُعلنت المجاعة فيها استحالت ساحة معركة مفتوحة في غرب السودان منذ أشهر.
ووصلت أعداد من هؤلاء النازحين إلى مدينة طويلة في ظروف إنسانية مأساوية جداً، بعد انتهاكات أتى بها مقاتلو قوات الدعم السريع الذين كانوا منتشين بالانتصار العسكري الذي حقّقوه بالاستيلاء على أخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور. وهكذا يُطوى فصل من فصول الحرب في السودان المستمرّة منذ منتصف إبريل/ نيسان 2023، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وعلى الطريق من الفاشر، تعرّض نازحون لطلقات نارية واعتُقل آخرون، فيما جُرّد كثيرون من مقتنياتهم الشخصية وهواتفهم الجوّالة وكذلك من المال القليل الذي كان في حوزتهم، وذلك وفقاً لما أتى في إفادات عدد من الذين وصلوا إلى طويلة أخيراً. من بين هؤلاء هارون يعقوب، الذي وصل إلى طويلة مع 13 من أفراد أسرته. ويخبر “العربي الجديد” أنّهم حاولوا الخروج من الفاشر في الظلام، نحو الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، آملين ألا يقعوا في أيدي عناصر قوات الدعم السريع. وعلى الرغم من ذلك، أُوقفوا وتعرّضوا للضرب والإساءة ونُهبوا. ولعلّ الأسوأ هو أنّ ثلاثة أفراد من العائلة فُقدوا في أثناء خروجهم من الفاشر، ولم يُعرَف مصيرهم بعد.
يضيف يعقوب أنّ “عند أوّل حاجز لقوات الدعم السريع، وُجّهت إلينا تهم، تودي كلها إلى الموت، من بينها أنّنا جنود تابعون للجيش السوداني، وأنّنا متعاونون مع الاستخبارات العسكرية. وبعد تحقيقات ميدانية قاسية، تعرّضنا في خلالها للضرب ولانتهاكات طاولت كرامة بصورة قاسية، جُرّدنا من مقتنياتنا وأُطلق سراحنا”، مشيراً إلى أنّ “النساء كذلك لم تسلم من الانتهاكات”. يتابع يعقوب سرده: “سرنا على أقدامنا لأكثر من نصف المسافة، ثمّ ركبنا شاحنة نقل بضائع أوصلتنا إلى طويلة”، مبيّناً أنّهم وصلوا إلى المدينة “في غاية الجوع والإرهاق والخوف”.
من جهتها، تصف كوثر جار النبي رحلتها مع أسرتها من الفاشر إلى طويلة بأنّها “رحلة موت حقيقي”. وتقول لـ”العربي الجديد” إنّه “عند اقتراب مقاتلي قوات الدعم السريع من مقرّ الجيش وأوشكوا على السيطرة عليه، استفدنا من انشغالهم بمعركة الأمتار الأخيرة، وهربنا إلى خارج المدينة التي كانت قبل أيام قليلة محاصرة من كلّ الاتجاهات، فيما تمنع قوات الدعم السريع الدخول إليها والخروج منها”.
وتخبر جار النبي: “كنّا تسعة أفراد من عائلة واحدة نسير بين مجموعة من النازحين يزيد عددهم عن 60 شخصاً، وكنّا نتوقّع تصفيتنا من قبل هؤلاء المقاتلين، لكنّنا نجونا. ووصلنا إلى منطقة قرني (شمال غربي الفاشر)، وهي المحطة الرئيسية على الطريق التي راح النازحون من الفاشر يستريحون فيها”. وتلفت إلى أنّ “ستّة من أفراد العائلة ساروا حفاة؛ هم لا يملكون أحذية” وتشرح المعاناة قائلةً “كنّا محاصرين لأشهر، وخسرنا كلّ ممتلكاتنا ومدّخراتنا. وأمضينا أياماً ونحن نقتات على الأمباز (علف للماشية). لذا يرتدي نازحون كثيرون الملابس البالية، وقد ساروا من دون أحذية في طريقهم إلى مدينة طويلة التي وصلوا إليها وقد تقرّحت أقدامهم”.
وفي العراء، تقيم كوثر جار النبي مع عشرات من النازحين الذين فرّوا مثلها من مدينة الفاشر. وتفيد: “حصلنا هنا على قليل من الطعام ومياه الشرب، وما زلنا ننتظر توزيع الخيام والأغطية والفرش وأواني المطبخ، لأنّنا وصلنا بالثياب التي على أبداننا فقط”. وتكمل: “خرجنا من المدينة التي انتشرت الجثث على طرقاتها، والتي تحوّلت إلى ثكنة عسكرية لا يتردّد مسلّحوها في إطلاق الرصاص على أيّ شخص لأبسط الأسباب. وهنا في مدينة طويلة التي تفتقر إلى أبسط الخدمات ويتشارك آلاف النازحين الموارد القليلة المتوفّرة، الحال أفضل”.
وعلى الرغم من أنّ المسافة بين مدينتَي الفاشر وطويلة لا تستغرق في العادة أكثر من ساعتَين، فإنّ النازحين اضطرّوا إلى السير لأكثر من 48 ساعة لاجتيازها، بسبب الوضع الأمني المتدهور وأحوالهم، مع العلم أنّ كثيرين من هؤلاء عانوا من الجوع والأمراض ومن إصابات حرب.
وفي مدينة طويلة، راح متطوّعون يستقبلون النازحين المنهكين. ويقول هارون محمد، وهو أحد هؤلاء المتطوّعين، لـ”العربي الجديد” إنّ “الآلاف وصلوا في حالة متردية، وهم يعانون من الجوع الشديد ومن الأمراض وعدد منهم مصاب من جرّاء الحرب ويحتاج إلى علاج عاجل”. يضيف أنّ “رحلة عدد من هؤلاء استغرقت وقتاً أكثر من المتوقّع إذ كانوا منهكين من جرّاء الجوع والمرض وطاقتهم البدنية المتدهورة”. ويتابع محمد أنّ “عشرات الأشخاص توفّوا على الطريق بسبب العطش والجوع ومضاعفات إصاباتهم التي عانوا منها في خلال الحصار”، مشيراً إلى “أشخاص مفقودين كذلك؛ شوهدوا في آخر مرّة عند فرارهم من مدينة الفاشر التي شهدت فوضى عارمة في أثناء هجوم قوات الدعم السريع على مقرّات الجيش”.
ويتوقّع محمد أن يكون “آلاف النازحين ما زالوا عالقين في الطريق، بعدما تقطّعت بهم السبل”. ويلفت المتطوّع السابق في تكايا الفاشر، الذي ينشط اليوم في طويلة، إلى أنّ “المواد الغذائية والأدوية التي توزَّع راهناً على النازحين قليلة جداً، وقد تنفد في أيّ لحظة مع استمرار تدفّق الفارين من الفاشر”.
بدورها، تروي فاطمة عبد الرحمن رحلتها إلى طويلة أخيراً، علماً أنّها من السودانيين الذين هجّرتهم آلة الحرب لتستقرّ بهم الحال لبعض الوقت في مخيّم زمزم للنازحين بمدينة الفاشر، حيث أُعلنت المجاعة. وتقول لـ”العربي الجديد” إنّ “المسلحين الذين راحوا يهاجمون النازحين في أثناء فرارهم، جرّدوهم من كلّ متعلّقاتهم، ولم يتركوا لهم سوى الملابس على أجسادهم”. تضيف أنّهم “نزعوا منّا حتى الأغطية والثياب التي كنّا نحملها مهنا، وقد وصلنا إلى طويلة في اسوء أحوالنا بعد تعرّضنا للضرب والنهب بصورة غير مسبوقة من قبل المسلّحين الذين كانوا يطلقون النار عشوائياً ويرعبون النازحين”.
وكان المدنيون قد اضطرّوا إلى الفرار من القتال الدائر، وسط حالة من الرعب، فعبروا نقاط تفتيش مسلحة، تعرّضوا عندها للابتزاز والاحتجاز والنهب والمضايقة؛ في المختصر لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في أثناء محاولتهم الوصول إلى برّ الأمان.
في سياق متصل، يقول المتحدث باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إقليم دارفور آدم رجال لـ”العربي الجديد” إنّ “النازحين الذين وصلوا إلى طويلة من الفاشر يعيشون وسط ظروف إنسانية حرجة. وطويلة تحتاج إلى خدمات أساسية منقذة للحياة، بما في ذلك المياه والرعاية الصحية والغذاء ومواد الإيواء وخدمات الحماية والتعليم والدعم النفسي والاجتماعي وغيرها من المساعدات الإنسانية الطارئة”، لافتاً إلى “صدمات بين النازحين، وأمراض وإصابات خطرة تستوجب تدخّلاً طبياً، فيما يعاني كثيرون من سوء التغذية والجوع”.
تجدر الإشارة إلى أنّ مدينة طويلة تخضع لسيطرة حركة عبد الواحد محمد نور المتمرّدة منذ عام 2003. وفي ظلّ المستجدات الأخيرة في المنطقة، علّقت الحركة عملياتها العسكرية كافة وفتحت المجال أمام استقبال النازحين من مدينة الفاشر ومن أنحاء أخرى من إقليم دارفور الذي فرضت قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة عليه.





