مقالات وآراء

محنة سودانية (عن عتمة الاستنارة وخواء الحوكمة)!!

 

عبدالله مكاوي

يبدو ان سوء الحظ كماركة مسجلة لبلادنا واهلها الاشقياء، ابي إلا ان اتعثَّر في مقالة الدكتور الوليد مادبو الاخيرة، بعد ان عافت نفسي الاقتراب من كل ما يمت لنصراء المليشيا بصلة. وذلك لا لشئ إلا لصعوبة الجمع دون تناقض او خذلان، بين مليشيا تجسد مُركب الشر والانحطاط المطلق علي الارض، وبين من يتصدي للشأن العام من موقع الحكمة والحوكمة والاستنارة والحرية والديمقراطية والدولة المدنية ومدونة اخلاقية، وغيرها من المحفوظات الشفاهية، التي تكسبوا منها مكانا عليا، بعد ان باعوا لنا الاحلام الوردية. لتٌثبت الوقائع انها مجرد مضمضة في الافواه وحلاوة من طرف اللسان، لم توقر في القلب ويصدقها العمل، شأن رفقة ابن سلول في كل زمان ومكان.وقبل كل شئ هنالك ملحوظة لابد من ايرادها، وتتلخص في ان المرء يكاد يجزم لولا ملفوظة الجلابة المفرطة في التعميم والقابلة للتوظيف في كل اتجاه والملبية لكل الاغرض، لما كان للوليد مادبو هذا الحضور المكثف في الوسائط الاعلامية والمنابر الثقافية، لدرجة الالتفاف حوله من بعض الحيران الذين يتلقفون تنظيراته كخلاصات مستخلصة من جذوة الفكر ومنجم الحوكمة! رغم ان القصة كلها لا تتعدي ازمة مفتعلة خلقها الوليد لنفسه واكسبها طابع المعضلة الابدية! بل هي اقرب لطاحونة هواء صنعها الوليد بعد مراجعته الانحيازية والانتقائية لاضابير التاريخ، ليخرُج لنا بتخريجة الجلابة بعد ان البسها لبوس آلهة الشر التي حولت السودان الي قطعة من جهنم. وكان يمكن لهذه المزحة ان تكون طريفة يتلهي بها السمار وتنبسط لها الاسارير مما يخفف ضغوط الحياة، لو كانت داوفعها نبيلة كدون كيشوت، ولكن ان تكتسب كل هذه الاحقاد والاحكام المسبقة، لتتحول الي مورد ترده المليشيا لتلبي حاجاتها للانتهاكات والممارسات البربرية والهمجية بدم بارد، فهذه محنة مهلكة ورب الكعبة. وكل ذلك لتوهم الوليد ان ما يسميه الجلابة (هكذا صمة واحدة) ودون اعتبار لتبدل الزمان والمكان وتغير الاجيال وانماط الحياة، وما يواكب ذلك من تبدل وجهات نظر والميول والمصالح بل كل شئ، لدرجة ان المطلح نفسه اصبح يصك الاسماع بغرابته المعاصرة، ولا يدل علي اي شئ، بل يجهله جل من يطلق عليهم! هم نقطة الضعف الحساسة او المعركة المضمونة التي لا تكلف الوليد شيئا سوي العزف علي وتر العرقية والمظلومية والعنصرية الصاخبة الايقاع! اي لان ذلك يخدم اغراض الوليد (الذي كلما احسن الظن به كشف عن سذاجتنا) في المحافظة علي امتيازه الموروث (حفيد ناظر قبيلة)، الذي تدين له الرقاب لامتلاكه الحكمة وفصل الخطاب، وهو ما يعتقد الوليد انه لا يتوافر في الجلابة، الشامخون بانوفهم بعد ان منحهم الاستعمار وعروبتهم المنتحلة حق السيادة! من يصدق بعد ذلك اننا في حضرة استنارة وحوكمة وفكر وهلمجرا؟ بل نحن امام فرد كرس لثقافة تفجر الفتن بحجة التحرر، وتخرب وتدمر ما هو قائم من مكتسبات عامة، لاجل تاسيس اوهام وعقد تتلبس احدث مصطلحات العلم والفكر والثقافة، ولو تم ذلك باكثر الوسائل همجية والسلوكيات انحراف والقيم انحطاط! فهل هنالك استهتار بالحوكمة واستهانة بالاستنارة وتلاعب بالموضوعية اكثر من هذا الغُثاء المهلك؟! والسؤال والحال كذلك، ما قيمة الموضوعية ان لم تتحرر من النظرة والغرض والمصلحة الذاتية؟ وما فائدة الاستنارة ان لم تطبب الجراح وترمم الوجدان الوطني علي هدي المواطنة واحترام حقوق الانسان؟ وما الداعي للحوكمة ان لم تلجم السعي بمناكب الارث العائلي لنيل المناصب وجني المكاسب، وكذلك التزام جادة الانضباط وتحمل روح المسؤولية، ليس في تناول الماضي فحسب، ولكن الاهم لاجل متطلبات الحاضر وآفاق المستقبل.

وبالطبع ليس القصد انكار الملابسات التي احاطت بتاريخنا كشأن كل تاريخي انساني، وانما دراسته بموضوعية (مراعاة مرحلته وشمول الظروف المحيطة). بقصد الاستفادة من الايجابيات وتلافي السلبيات، الشئ الذي يوسع مدي الوعي العام مما يساعد علي بناء المعالجات الراهنة والاهداف المستقبيلة علي اسس راسخة. ومؤكد كل ذلك يختلف عن اخراج الوقائع من سياقها التاريخي لتوظيفها راهنا في صراع سلطة نخبوي لا شأن له بالمصلحة العامة، بل علي حسابها، وليس ادل علي ذلك مما نعانيه الآن من دمار شامل علي مستوي الدولة وتشريد وتعذيب ونهب وقتل المواطنين، بحجة تحريرهم وتاسيس دولة جديدة!!
وبعد هذا الطواف في بواعث (ناظر الحوكمة) الوليد مادبو نلج الي متن مقالته الاخيرة (بسالة الموقف …الخ) التي لم تختلف عن مضمون كتاباته، حتي يئسنا من ان يرعوي عن النفخ في نيران الفتنة العرقية، لدرجة اصبحت خيبة املنا فيه ملازمة للمحنة المستطيرة التي يدفع ثمنها الابرياء ومستقبل الاجيال القادمة.اولا، تحدث الوليد عن ان ما تم في الفاشر تحرير وليس سقوط. من يصدق ان يصدر ذلك عن خبير الحوكمة والاستنارة والتحرر، وراعي الضأن في الخلاء يعلم حقيقة وطبيعة المليشيا، القائمة علي النهب والسلب والانتهاكات وتقويض اي معلم للدولة واحلال الفوضي محلها! بل من يصدق ان الوليد بقوله هذا يضع المجرم الجاهل حميدتي في مصاف قادة من طينة جيفارا وهوشي منه! بل من يصدق ان نفس مليشيا التحرير ظلت تحاصر الفاشر لما يزيد عن العام ونصفه، حارمة الرضع والشيوخ والنساء من ابسط مقومات الحياة. ولم تكتفِ مليشيا حميدتي/الوليد بذلك، اذ ظلت تواصل التدوين العشوائي ليل نهار، والقذف الممنهج للمرافق الحيوية والخدمية من اسواق ومستشفيات ولم تستثنِ حتي دور العبادة!
والمفارقة ان التحرير المزعوم ياتي غصبا عن اهل الفاشر، الذين لا اعتقد انهم التفوا يوما حول امر، قدر التفافهم حول رفض المليشيا ونبذ شعاراتها الكاذبة. ولم يتصدوا ببسالة سطرها التاريخ لعدو، قدر تصديهم البطولي لتتار العصر الحديث! وجزء اساس من هذا التلاحم الفاشري يرجع لما تعرض له اشقاءهم المساليت في الجنينة علي يد مليشيا التحرر، وبمباركة من سدنتها الذين يذرفون الدمع الهتان علي ظلم الجلابة المتوهم، وإلا لكان لهم موقف مختلف من اجرام المليشيا المرتبط بها ارتباط الجلد بالحلم.
وعندما تحالفت الحركات المسلحة مع الجيش رغم ما صنع الحداد بينهما، لمجابهة مخطط المليشيا المدعوم خارجيا، ارتفعت عقيرة سدنة المليشيا باطلاق الالفاظ الموغلة في العنصرية (فلنقيات) عليهم! رغما عن تراث هائل من الكتابات التي تنعي علي الجلابة عنصريتهم (نعم المبدئية). بل هذا وحده يكشف عن زيف الشعارات الي يتبنونها والقضايا التي يحرضون الموتورين علي القتال من اجلها، والتي تنحصر فقط في خدمة مصالح الخارج وعائلة حميدتي والنهب والسلب والابادة بشكل اساس وللبقية سقط المتاع.وعموما كما ظللنا نكرر ان المليشيا اذا كان سلاحها ساهم عسكريا في تدمير الدولة وابادة شعبها ونهب الممتلكات الخاصة والعامة، فقد عمل سياسيا علي منح الشرعية لكل اعداء الثورة، اقلاه لمجرد الحماية من خطر المليشيا! بل الاسوأ من ذلك، دفنت كل امل قريب في الاستقرار والخروج من نفق الاضطرابات، مما يمهد الطريق لعسكرة الدولة بصورة اكثر تطرف، الشئ الذي يجعل الامل في الديمقراطية والدولة المدنية في خبر كان.ثانيا، من المخبول الذي تنطلي عليه فرية تخليص شعب دارفور من إرث العبودية، علي يد مليشيا ليست اكثر من اداة قذرة في صراع السيطرة علي موارد البلاد ورهنها لاطماع الخارج وطفيلي الداخل! اي كيف يحرر الآخرين من كان نفسه ياتمر بامر اسياده، ولا يملك إلا الطاعة العمياء؟ والحال ان شعب الفاشر هو شعب حر، وليس هنالك احرار يشترون او يطلبون الحرية من احد. والفاشر تحديدا كانت مقر لسلطنة تاريخية تملك زمام امرها، ولكن المازومين ومن يعانون عقدة الجلابة، يتوهمون ان الجميع مثلهم وهنالك من يتسيد عليهم، وغالبا هذا السيد المتوهم نفسه لا يعلم شئ عن هذه السيادة!بل هذا التاريخ الذي يستند عليه مادبو، ويشهره كسلاح تشهير بالجلابة، اثبت ان عسكرة الدولة او دخول السلاح في معادلات السلطة والسيطرة، آخر ما يشغل بال حملته وانصاره، هو الحقوق المدنية واطارها العام الدولة المدنية. وبكلام آخر، اقصر سبيل لترسيخ الثقافة والمؤسسات المدنية هو الايمان بها، واتباع الوسائل والاساليب والادوات المدنية لانجازها، والفاشر ليست استثناء من ذلك. وصحيح مع تراث عسكرة السلطة وتجذر الاستبداد والفساد، المهة صعبة، ولكن المؤكد حل العسكرة بعسكرة مضادة هو الخبل نفسه ناهيك عن كلفته الهائلة.
كما ان ذات التاريخ اثبت ان تحالف المدنين مع العسكر وتوفير الغطاء المدني او مظهر الدولة لهم، ينتهي دائما بنبذ المدنين او تهميش تاثيرهم، بعد تركيز السلطات في يد جنرال مفرد، يتعاظم جنونه وتجبره وفساده ومخاوفه ويزداد تشبثه بالسلطة بطول بقائه فيها، لينتهي به المطاف نصف إله ولكن كالعادة فوق كومة جماجم ومرتع خراب.ثالثا، يحاول الوليد مادبو وبسبب موجدته من ما يطلق عليهم الجلابة، التعميم المخل بهذا المصطلح الشعبوي، الذي قد ينفع في اثارة الاحقاد وتحشيد البسطاء وتحفيز المقاتلين ودغدغة مشاعر الحانقين، ولكنه لا يصلح كاداة تحليل او حل عقد او معالجة معضلات يرزح تحتها وطن كسيح، والاصح مُصادر بواسطة صراع سلطة عقيم. ولا نغالي اذا رددنا جزء من ذلك للاستسهال في تناول القضايا المصيرية والابتذال للشعارات والمصطلحات والمتاجرة بالالقاب، وعينة او نموذج الجلابة/ مادبو خير مثال.
رابعا، من يصدق تخليط علي هذه الدرجة من العماء والانحراف عن جوهر الازمة، عندما يتحدث الوليد بجرأة عجيبة عن الجلابة الذين يُعَدون ليكونوا مشروع متعاون مع الاستعمار، والباسهم لبوس العار لاعتبارهم مجرد عبيد للمصريين فقط حتي لا يتساوون مع اخوتهم في الوطن!! يا للهول وبؤس الحوكمة وتمريغها بالتراب؟! فهل يصدق الوليد ان اهل الشمال هم اكثر من تضرر من ارتهان الانظمة الانقلابية للمصريين منذ نظام عبود العسكري (المقصود بجوهر الازمة الانظمة العسكرية)؟ وهل يعلم الوليد بعد انقلاب البرهان/حميدتي المشؤوم، ان من تصدي بصورة رئيسية لتروس الثوار في الشمال التي تعترض علي علاقات التجارة غير المتكافئة بين القطرين، هي مليشيا الدعم السريع بشكل رئيس ومساعدة بقية الاجهزة العسكرية؟
اما الامتيازات التي منحها الاستعمار للجلابة كما يضخمها ويؤولها علي مزاجه الوليد، يفترض آخر من يتحدث فيها الوليد نفسه إلا بعد ان يتبرأ من ارث عائلته التي يحاول ان يستثمر فيه! لان الادارات الاهلية هي صنيعة استعمارية، وما نالته من امتيازات وبما فيها تعليم ابناء نظار القبائل، كان نظير خدمات قدموها للمستعمر، ولكن يبدو ان الوليد يستهويه رمي الجلابة بداء لينسل منه!وفي إطار التخاليط يتحدث الوليد عن جرائم النخب المركزية، مع ان المعلوم بالضرورة ان الحروب تشنها انظمة عسكرية لا تمثل إلا مصالح انصارها، في سياق صراع السلطة المزمن. بدليل ان ذات الانظمة تقمع المعارضين والنشطاء في المركز.
وكذلك الحديث الغريب عن تخريب الوطن التي بدأت بقتل الزرقة في دارفور وفض الاعتصام. فماذا نسمي مثل هذا الحديث؟! هل هو شهد شاهد من اهلها؟ ام هي ازدواج شخصية الوليد التي تفلق وتعجز عن المداوة؟! لان مثل هذا الحديث يدين ذات المليشيا التي يدعمها ويعتبرها قوات تحرير، لانها ببساطة المسؤول الاول عن هذه الجرائم! بل لم يتغير نمط الحروب الاهلية الي الاستهداف الممنهج للبنية التحتية والحط من كرامة المواطنين واستسهال ابادتهم، إلا بعد دخول هذه المليشيا البربرية مسرح الحروب.
وكان الله في عون اهل الفاشر وهم يتعرضون للاستباحة الهمجية وبطريقة استعراضية، والتي يسميها صاحب الحوكمة تحرير!وعموما يبدو ان تحرير الفاشر كما يدعي الوليد، ليس محطة انهيار رمزية لارث طويل من الوصاية المركزية والاستعلاء العرقي وتفكيك بنية هيمنة تاسست علي ثقافة الرق وتواطؤ النخب النيلية مع المستعمر، وغيرها من هذا الكلام الذي يبدو من مظهره وكانه مثقافة عالية المقام، ولكن من يتدبرها يجدها نموذج لقراءة الوليدة المتحيزة للتاريخ والخادمة للمليشيا والمُشيطنة للجلابة، ومن ثمَّ اصبحت تمائم يعلقها الوليد في كل كتاباته ومواقفه الجهوية غض النظر عن السياق او حقيقة الواقع والوقائع (قال تحرير قال)!
خامسا، للاسف يصر الوليد علي عرقنة هذه الحرب العدمية رغما عن عواقبها الوخيمة، مما يجعله شريك في كل فظائع وانتهاكات المليشيا ضد ابناء المركز، وهو يزود المليشيا بهذا العتاد من القراءة المتعسفة للتاريخ والانحياز ضد المركز/الجلابة/النخبة النيلية وغيرها من التعبيرات الناضحة حقدا وكرها. وهو يكرر حديثه الممجوج عن قيادات الجيش والرتب العليا واللجان الامنية ليضيف هذه المرة البرتوكولات الامنية بكل ما يحمله هذه التعبير من ايحاءات صهيونية. اي مرة اخري يلوي عنق ملابسات تاريخية ليوظفها في مشروعه المعطوب المتمثل في الترويج لمؤامرة من وحي خياله عمادها استعلاء الجلابة علي بقية مكونات الوطن بعد تجيير كل خيراته لمصلحة الجلابة. والسؤال ماذا يقول عن حميدتي الذي وصل لاعلي رتبة عسكرية دون تاهيل، واستولي علي نصف موارد البلاد من غير وجه حق، واستخدم اسلحته وقدراته العسكرية في تدمير البلاد واستحياء اهلها وامتهان الارتزاق والعمالة، وهذا لم يحدث قبل قرن ونصف وفي ظروف مختلفة حتي يتم الجدل والاختلاف حوله (وعلي طريقة ادروب جلابة تشوف آل دقلو ما تشوف)؟!اما المفارقة المحيرة ان ذات الوليد وفي حضن نظام الانقاذ الاكثر مركزية، لم يستنكف عن تاجير او امتلاك (لا اعلم) منزل في عاصمة البلاد (قلب المركزية) ويفتح داره للندوات الادبية. اي الوليد الذي بني مجده الثقافي والفكري علي ذم المركز والنقد المبرِّح لاهله، عندما يُمنح الخيار يفضل المركز علي منطقته، ومعاشرة اهله علي عشيرته. وهذا ان دل علي شئ يدل علي ان الوليد لا يكره المركز والجلابة إلا لتصوره انهما صادرا امتياز سيادة وريادة هو احق به. وهذا التصور المأزوم لا يرضيه ويشبعه إلا ان يسود عليهم. اي الوليد لو خُير بين حكم دارفور بكل السلطات وتوفرت له كل الموارد وهو مختص الحوكمة، وبيده اسعاد الدارفوريين، وبين حكم شكلي للعاصمة. لفضل الخيار الاخير بكل سرور، ولابتلع كل نقوداته الجارحة منها والموضوعية لكل من كامل ادريس وقبله حمدوك.سادسا، اذا صدق ان جوهر الازمة تجسده نظم عسكرية تستولي علي السلطة بطريقة غير شرعية، لتُدخل البلاد في ازمة سلطة تجيير كل موارد البلاد لخدمة اجندتها الخاصة وحماية إستدامتها، عبر اسوأ ظاهرتين عرفها التاريخ الانساني الاستبداد والفساد. فان مليشيا الجنجويد غير انها احد افرازات سوء ادارة السلطة والاستهتار بالمسؤولية وعلي راسها الامن القومي، إلا انها تحاول اعادة انتاج ذات الاخطاء والجرائم ولكن بطريقة اكثر تخلف وهمجية وعمالة ونهب يحاكي قطاع الطرق. اي ننتقل من فوضي السلطة التي يجسدها العسكر، الي سلطة الفوضي التي تجسدها المليشيا، وبالطبع لا يوجد اخطر واحط من هذه الاخيرة. وبدل ان يضع اختصاصي الحوكمة يده علي الجرح ويسمي الاشياء بمسمياتها، اي المليشيا كاداة قذرة ومجرد وجودها في اي دولة هو اعلان بخراب عمرانها وارتهانها للفوضي واهلها للمهانة. فضل مادبو الارتماء في احضان القبيلة ليقدم لها ليس الدعم المعنوي ولكن لي عنق الحقائق بل ضربها في مقتل وهو ينسب لمليشيا همجية دموية نهبوية ارتزاقية كل ما يناقضها من السعي للحضارة والتنمية والتحرر. وهذا ليس بغريب لمن ظل يتخذ من العرقية مرجع للتحليل و محور رؤية للكون والحياة، وكالعادة من موقع يتظاهر بالبراءة والعمل لوجه الله.سابعا، وكعادة الوليد في الانزواء عن الصلابة في الالتزام بموقفه وتحمل عواقبه، والاهم حتي يحافظ علي الموضوعية الشكلانية التي تحفظ موقعه في نادي كبار المثقفين. يحاول دلق قليل من الماء البارد او شراء صمت الجلابة وهو يمدح بعضهم بطريقة خجولة، وغالبا وهو مكره، في خاتمة مقالاته، علي طريقة (دق الاضينة واتعذرلو). لكل ذلك ما يحتاج للتحرر ليس اهل الفاشر الابطال واطفالها الابرياء، ولكن الوليد نفسه، ولن يتم ذلك إلا عبر تحرره من هاجس الجلابة ودعم مليشيا الجنجويد وارث عائلته كمنفذ للامتيازات السلطوية المجانية.واخيرالا اعلم ما هي الحكمة في ان يرفض الجيش كل مبادرات التفاوض سواء جاءت من الرباعية كانت او الخماسية، طالما هو يحكم بالامر الواقع وتاليا يقع عليه عبء توفير الامن والخدمات وحفظ النظام. وعليه المسؤولية تتطلب منه ليس قبول التفاوض ولكن السعي اليه بالمناكب، عكس المليشيا التي اصلا ليس لها مصلحة في السلام، ولا تقع عليها اي مسؤولية، لتجردها من كافة القيم والاعراف والاحتكام للشرائع والقوانين! وهذا احد اوجه غموض حربنا القذرة التي تستعصي علي الفهم او التكييف في اي سياق!! لكل ذلك قبول التفاوض يفترض ان يكون امر مبدئي للجيش الحاكم، اما المطالب وتفاصيل التفاوض فهي ما تحكمه المصلحة العامة والموضوعية وليست المطالب التعجيزية، وكأنه لم تحدث حرب كارثية غيرت كل شئ وقلبت كل الموازين، والاهم ان تترك مساحة لرعاة التفاوض. حتي تنتهي ابشع حرب يعيشها شعب برئ، ويضمن عدم تجددها كل مرة! وصحيح ان مجرد وجود المليشيا كارثة، واي اتفاق معها غير مضمون لتجردها من المرجعيات الوطنية والاخلاقية والعقلانية، ولكن هذه المليشيا اصبحت واقع فرضه العسكر انفسهم! وان لم تستطع الانتصار فهي قادرة علي التخريب والنهب والعمالة وقتل المواطنين. كما ان الحرب نفسها ليست بحل بل هي ام الكوارث. وامام هكذا تعقيدات يوجد حلان: حل جذري يتمثل في مطالب الثوار بحل المليشيا وذهاب الجيش لثكناته وارتقاء الطبقة السياسية لتحمل المسؤولية، وهو حل كما يبدو مثالي يناسب دولة كسويسرا، فوق انه يتجاهل موازين القوي وحقيقة الحرب، كحرب علي الموارد وتصارع مصالح لوردات وراسمالية داخلية ودول خارجية. ويتبقي الحل الثاني وما يتفرع منه او يشابهه، وهو ذو صلة بتخمين حقيقة هذه الحرب التي ليس فيها شئ اكثر وضوحا من غموضها، منذ اول طلقة في الخرطوم حتي سقوط الفاشر (اي مؤامرة علي البلاد لاعادة هندستها وترتيبها ومن ثمَّ توظيفها لخدمة رعاة هذه الحرب في الخارج والداخل!!). اما وقد تم انضاج واستواء طبخة المواطنين بنيران الحرب المستعرة، وتاليا قابليتهم لقبول اي حل يخرجهم من هذا الجحيم. فقد آن الاوان لتحويل وجهة العسكر من الطرفين، بدل من اهدار الموارد في الحرب، يكون هنالك اقتسام للنفوذ والموارد برقابة دولية، علي ان يجد بقية المواطنين نصيب من عائد التنمية الجائرة، وتنصرف الطبقة السياسية لمراجعة مسيرتها والبناء من جديد علي اسس حديثة، لا تراعي ظروف العصر وطبيعة القوي التي تحكمه وتسيطر عليه فحسب، ولكن قبل كل شئ التحرر من الشعارات الكبيرة والوعود البراقة، وعدم تعريض البلاد واهلها مرة اخري لتجارب قاسية لا قدرة لهما علي احتمالها، وهم يناطحون عسكر اول ما يتعلموه في العسكرية، انهم سادة هذه البلاد واوصياءها. مؤكد هي خاتمة محبطة، ولكنها اول درس نتعلمه من هذه الحرب القذرة. ودمتم في رعاية الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..