مقالات وآراء

هل يعيد الذكاء الاصطناعي رسم خريطة العالم؟

محمد سنهوري الفكي الامين

يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة جبارة تعيد كتابة قواعد اللعبة في العالم، فلم يعد مجرد طفرة تكنولوجية، بل محرك استراتيجي يعيد تشكيل موازين القوى الاقتصادية والسياسية، ويطلق سباقاً محموماً نحو الهيمنة على مستقبل تحدده الخوارزميات والبيانات الضخمة. إنه عالم جديد يتخلق من رحم الثورة الرقمية، حيث تتسارع وتيرة الابتكار بشكل لم يسبق له مثيل، وتتلاشى الحدود بين ما هو ممكن وما هو خيال علمي .

على الصعيد الاقتصادي، يرسم الذكاء الاصطناعي لوحة معقدة من الأرقام والوقائع التي تدل على حجم التحول الهائل. فالاستثمارات تتدفق كالأنهار في هذا القطاع الحيوي، حيث بلغ إجمالي الاستثمار المؤسسي في الذكاء الاصطناعي 252.3 مليار دولار في عام 2024، وهو رقم يعكس نمواً تجاوز ثلاثة عشر ضعفاً منذ عام 2014. وتقود الولايات المتحدة هذا السباق باستثمارات خاصة بلغت 109.1 مليار دولار في العام نفسه، متجاوزة بذلك الصين والمملكة المتحدة بفارق شاسع. وتشير التقديرات إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي قد تساهم بنحو 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، مع توقعات بأن يرفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تصل إلى 14% خلال الفترة ذاتها. هذا الزخم الاقتصادي هو نتاج مباشر للزيادة الهائلة في الإنتاجية التي يحققها الذكاء الاصطناعي، حيث أفادت 78% من المؤسسات باستخدامها للذكاء الاصطناعي في عام 2024، بزيادة ملحوظة عن 55% في العام الذي سبقه.

لكن هذه الثورة الاقتصادية لا تخلو من وجه آخر يثير القلق، ويتعلق بمستقبل سوق العمل. فبينما يعزز الذكاء الاصطناعي الإنتاجية ويخلق وظائف جديدة، فإنه يهدد في الوقت ذاته ملايين الوظائف التقليدية. تشير الدراسات إلى أن ما يقرب من 20.5% من الوظائف في اقتصادات متقدمة مثل السعودية قد تكون عرضة للاستغناء عنها، بينما يخشى 30% من العمال في الولايات المتحدة من أن تحل الآلات محلهم بحلول عام 2025. وتتغير المهارات المطلوبة في سوق العمل بوتيرة متسارعة، حيث تتغير المهارات في الوظائف المعرضة للذكاء الاصطناعي بنسبة 66% أسرع من غيرها، مما يضع ضغوطاً هائلة على أنظمة التعليم والتدريب للتكيف مع هذا الواقع الجديد.

أما على المسرح السياسي، فإن الذكاء الاصطناعي قد تحول إلى ساحة جديدة للصراع الجيوسياسي، حيث تتنافس القوى الكبرى على تحقيق التفوق التكنولوجي الذي يضمن لها الهيمنة في القرن الحادي والعشرين. فالسيطرة على البيانات والخوارزميات أصبحت شكلاً جديداً من أشكال القوة، لا يقل أهمية عن القوة العسكرية أو الاقتصادية التقليدية. وتتصدر الولايات المتحدة والصين هذا المشهد، حيث أنتجت المؤسسات الأمريكية 40 نموذجاً بارزاً للذكاء الاصطناعي في عام 2024، مقابل 15 نموذجاً للصين. ورغم هذا التفوق الكمي، فإن الفجوة في الأداء النوعي تتقلص بسرعة، مما ينذر بمنافسة شرسة في السنوات القادمة. هذا السباق لا يقتصر على الجانب المدني، بل يمتد بقوة إلى المجال العسكري، حيث أصبحت الأسلحة المعززة بالذكاء الاصطناعي، مثل الطائرات بدون طيار، عنصراً حاسماً في الحروب الحديثة.

في مواجهة هذه التحولات المتسارعة، تتزايد الأصوات المنادية بضرورة وضع أطر تنظيمية وحوكمة عالمية للذكاء الاصطناعي، تضمن تطويره واستخدامه بشكل مسؤول وأخلاقي. وقد بدأت الحكومات والمنظمات الدولية بالفعل في التحرك، حيث أصدرت الوكالات الفيدرالية الأمريكية 59 تنظيماً متعلقاً بالذكاء الاصطناعي في عام 2024 وحده. لكن الطريق لا يزال طويلاً وشائكاً، فالرأي العام العالمي منقسم بشدة حول فوائد ومخاطر الذكاء الاصطناعي. إن بناء توافق عالمي حول كيفية إدارة هذه التقنية الثورية يمثل التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية في عصرنا الحالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..