مقالات وآراء

حفر الخوف:كيف يُخاض تغيير المجتمعات عبر العنف الديني  الثقافي والسلطوي في السودان

الخوف الموروث والصدمات
حفر الخوف والدم: صناعة الطاعة بالعنف الممنهج في السودان
في عمق الثقافة الجماعية، تجثم «حفر الخوف» — عادات وسلوكيات تتوارث عبر الأجيال قبل أن نفهم سببها. تجربة «القردة والسلم والموز» تبيّن كيف أن مجموعة تتعلّم ألا يفعل أحدها شيئًا خوفًا من العقاب، حتى بعد زوال سبب العقاب، يستمر السلوك بلا فهم. هذا ما يُسمّى الخوف الموروث: الطاعة الجماعية، تجنّب التغيير، والخضوع للقاعدة.
الصدمات الفردية والجماعية تعمّق هذا التأثير. في الاقتصاد والسياسة، يُستخدم العقاب — سواء كان اقتصاديًا، سلطويًا، أو اجتماعيًا — لتشكيل السلوك، وتحويل الخوف إلى أداة تحكم. الخطاب الديني والثقافي التقليدي يعمل بشكل مشابه: تحذير مستمر من النار، الصراط المستقيم، الانفصال عن الجماعة، كل ذلك يغرس فكرة أن التغيير خطر، ويمنع التجريب والمبادرة.
العنف السلطوي كآلية لصناعة الخوف والتغييب
الخوف الموروث وحده لا يكفي لتفسير الفظائع؛ فالتغيير الحقيقي يُواجه بالعنف المباشر: الإعدام، القتل الجماعي، الاعتداء الجنسي، النهب، والتوثيق.
مثال واضح: قوات الدعم السريع (RSF) في دارفور، الذراع العسكري لتنظيم الحركة الإسلامية، ترتكب اليوم مجازر تستهدف المدنيين بشكل منهجي. التقارير تقول إن المدنيين يشكلون نسبة كبيرة من الضحايا، وأن الاغتصاب يُستخدم كأداة عقاب جماعي ضد المجتمعات غير العربية في دارفور.
(HRW)
القتل الجماعي ليس رسالة للمقاومين فقط، بل لكل المجتمع: أي محاولة للتغيير أو المقاومة ستواجه عقابًا جماعيًا. الربط بالخطاب الديني والقبلي يحوّل الخوف الموروث إلى أداة استراتيجية سياسية تُبقي المجتمع تحت سيطرة النظام وأذرعه المسلحة.
الدين، الخطاب التاريخي، والحروب الموروثة
الخطاب الديني التقليدي للحركة الإسلامية لم يكن مجرد تعليم أخلاقي، بل أداة ترهيب للسيطرة السياسية. استخدم التنظيم شعارات الحروب المقدسة والجهاد لتبرير القتل وتوحيد الصفوف: الحملات ضد الجنوب المسيحي، التوسع في الغرب السوداني، كلها حملت شعارات «قتل الكفار» و«جهاد مقدس»، مما زرع في العقل الجمعي أن الطاعة والخوف هما السبيل للبقاء.
اليوم، لا يمكن فصل تنظيم الحركة الإسلامية عن أذرعها المسلحة: الدعم السريع هو امتداد مباشر للبنية التنظيمية والثقافية، يقوم بنفس الفظائع التي بدأها التنظيم تاريخيًا، مستهدفًا المدنيين، متجاوزًا القواعد العسكرية التقليدية، ومستمراً في صناعة الخوف والطاعة بالقوة. الرموز والأساليب التاريخية تتكرر: الترهيب الديني، الرسائل الرمزية للسيطرة، واستهداف المجتمع المدني ككل، مما يؤكد أن الفظائع الحالية ليست أحداثًا منفصلة، بل امتداد مباشر للخطاب التاريخي والتنظيمي.
انفجار الثورة السودانية وكسر القيود
كل هذه الهياكل — الخوف الموروث، العنف السلطوي، الخطاب الديني المهيمن، والسيطرة بالقوة — كانت بمثابة قيد ثقافي واجتماعي على الشعب السوداني.
لهذا، انفجرت الثورة السودانية كرد فعل طبيعي وغاضب، محاولة للتحرر من كل هذه القيود.
العنف الذي مارسته الحركة الإسلامية وأذرعها المسلحة، مثل الدعم السريع، لم يكن مجرد فوضى، بل تعبيرًا عن اعتقادهم بأن كل السودان وأهله ملك لهم، وأن أي محاولة للمقاومة تستحق العقاب. الثورة كسرت هذا القيد، ووضعت المجتمع أمام خيار الحرية والاختيار، رغم التكلفة العالية من الدماء والمعاناة.
هذا الانفجار ليس مجرد حدث سياسي، بل رد فعل جماعي لنفسية جماعية تم قمعها عبر التاريخ، يوضح أن التحرر الحقيقي يبدأ من كسر الخوف الموروث ومواجهة العنف الممنهج بعقلية جديدة وشجاعة جماعية.
استمرار الدعوة إلى التغيير الجذري  والتحرّر
التحرّر من ثقافة الخوف يتطلّب مشروعًا جماعيًا وفرديًا:
فكريًا: كشف أن الخوف ليس طبيعيًا فقط، بل مُصنّع عبر العادات، الخطاب، والعنف.
ميدانيًا: بناء تجارب بديلة في المؤسسات والمجتمع، حيث يُكافأ التغيير والمبادرة بدل العقاب الصامت.
ثقافة جديدة: مواجهة من يقول «من يغيّر يُعاقب» بثقافة تقول «من يغيّر يُكافأ».
العدالة والمحاسبة: لا تحرر من الخوف دون محاسبة مرتكبي الجرائم لضمان عدم إعادة إنتاج العنف.
التغيير الحقيقي يحدث عندما يُدرك الفرد والمجتمع أن العقل والضمير هما الحكماء لسلوكنا، وليس العقاب التاريخي أو الطاعة الموروثة. عندها تصبح «حفر الخوف» مجرد تاريخ، لا واقع يستعبدنا.
الخاتمة
أمامنا فرصة لا يمكن تفويتها سنعمل عليها تحرير العقل الجمعي والمجتمع من الخوف الموروث والعنف السلطوي، وكسر دائرة العنف المستمرة عبر التاريخ. لا نقتل الخوف، بل نحوّله إلى وعي، لا نغيّر السلطة بالقوة فقط، بل بالمعرفة، العدالة، والثقافة الجديدة. لنصعد السلم — قد يكون مخيفًا — لكن لن نُعاقب لأنه صعودنا، بل سنُكافأ لأنه اختيارنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..