مقالات وآراء

لا تدّعوا الفضيلة….فكلكم مجرمون

 

منذ أن اكتشف الإنسان قدرته على القتل، وهو يبرّرها باسمٍ جديد في كلّ عصر؛ مرةً باسم الله، ومرةً باسم الوطن، ومرةً باسم الأمن، ومرةً باسم الثورة. يتبدّل القناع، لكنّ الوجه واحد؛ وجه الغريزة حين تتخفّى في ثوب الفضيلة. وكلّما تقدّم الإنسان في العمران، ازداد بدائيةً في ضميره، حتى صار القتل عنده نظامًا منظمًا، له مؤسساته وبياناته وشاشاته ومبرّروه. وفي السودان اليوم، بلغ هذا التناقض ذروته، إذ لم تعد الحرب حدثًا عابرًا، بل مرآةً كبرى يرى فيها الجميع صورته الحقيقية؛ عاريةً من الأخلاق، مضرّجةً بالبرود، يتنازعها الصمت والخداع والتواطؤ.

ليست هذه الحرب صراعًا بين جيشٍ ومليشيا، كما يُقال في نشرات الأخبار، بل بين الضمير والوحش الذي ربّته السلطة في أعماق الإنسان. فالجيش الذي أقسم على الحماية صار يُتقن القصف أكثر مما يُتقن الشرف، والمليشيا التي ادّعت نصرة الثورة تحوّلت إلى عصبةٍ من تجّار الدم. كلاهما يقتل باسم الوطن، وكلاهما ينهبه باسم النصر، وبينهما شعبٌ يدفن أبناءه كلّ يوم ويسمّي ذلك الصبر. لقد سقطت الفوارق بين المجرم والضحية، لأنّ المجرم صار هو من يملك الصوت الأعلى، ولأنّ الضحية تُذبح مرتين؛ مرةً بالرصاص، ومرةً بالكذب.

الفاشر ليست مدينةً انهارت، بل شاهدٌ أدان الجميع. هناك سقطت آخر الأقنعة، وانكشفت عورة الإنسان حين يبرّر القتل باسم الأخلاق. من ميادينها المكسوّة بالرماد خرجت الحقيقة التي لم يعد أحد يريد أن يراها؛ أن الحرب ليست قدرًا، بل صفقة، وأن الموت ليس عشوائيًا، بل منظمٌ كإدارةٍ بيروقراطيةٍ للخراب. هناك التقت المصالح الداخلية بالأطماع الإقليمية، واختلط المال بالسلاح، والكراهية بالفتوى، فصار السودان ساحةَ اختبارٍ لضمير الإنسانية جمعاء.

في هذه اللحظة المظلمة من التاريخ، لم يعد أحد بريئًا. من حمل السلاح قاتل، ومن موّل قاتل، ومن صمت قاتل، ومن غنّى للدم قاتل. وكلّ من وقف على الحياد ايضاً قاتل، لأنّ الحياد في مواجهة الذبح هو جريمة مغسولة اليدين. لم يعد السؤال من بدأ النار، بل من أطال اشتعالها، ومن راقبها بدمٍ باردٍ وهو يكتب البيانات. إنّها جريمة جماعية مكتوبة بخطّ أياديكم كلكم، تقرأها الفاشر بصوتها المبحوح كلّ صباح، وتلعن بها صمت العالم كلّ مساء.

الفاشر لم تكن مجرّد مدينةٍ تسقط، بل كانت المرآة التي عكست بشاعة الجميع، وكشفت عريَ الضمير الكذوب حين يُختبر أمام الدم. هناك في دارفور، على تخوم الغبار والخذلان، انكشفت وجوه القتلة والمتواطئين، وسقطت أقنعة الأنظمة التي خطبت في المحافل عن “السلام” وهي تموّل الحرب في الخفاء. ما حدث في الفاشر لم يكن صراعًا على السلطة فقط، بل انهيارًا شاملًا للمعنى الإنساني في العالم. لم يعد أحد بريئًا بعد اليوم؛ فكلّ من دعم وسكت وموّل وسوّق وحلّل وغنّى وكتب وساهم في تمديد هذا الجحيم، هو مجرم، شريكٌ في المذبحة وإن لم يحمل سلاحًا.

أول المجرمين هم قادة الجيش السوداني الذين جعلوا من مؤسسة الوطن آلةً للدم بدل أن تكون حصنًا له. حين اندلعت الحرب، كانت الدولة تبحث عن منقذ، فإذا بالجيش الذي أقسم على حماية الشعب يوجّه سلاحه إلى صدره. من مجلس القيادة إلى أصغر ضابطٍ ميدانيٍّ أصدر أمرًا بالقصف أو الإبادة، تكرّست الجريمة تحت شعار “استعادة الدولة”. لم تكن تلك حربًا لاسترداد السيادة كما زعموا، بل لحماية امتيازاتهم القديمة التي صنعها فساد ثلاثين عامًا. عبد الفتاح البرهان، الذي استيقظ على ركام الثورة فلبس عباءة “المنقذ”، رفض كلّ مبادرةٍ للسلام، تجاهل النداءات الإنسانية، وأصرّ على أن الحل العسكري هو السبيل الوحيد. كان يعلم أنّ أي هدنة تعني نهاية سلطته، فاختار أن يُغرق السودان كله بالدم كي ينجو هو ومن حوله.

لكنّ الجريمة الأعمق ليست في الحرب ذاتها، بل في أنّ هؤلاء القادة سمحوا لتنظيمٍ عقائديٍّ، الحركة الإسلامية السياسية، أن يمتطي المؤسسة القومية، ويتسلّل إلى مفاصلها، ويعيد إنتاج نفسه بلباس الجيش الوطني. لم يكن الانقلاب على الثورة فعلاً عسكريًا بحتًا، بل كان تحالفًا بين بندقيةٍ تبحث عن الشرعية وتنظيمٍ يبحث عن الانتقام. تحت أعين القادة وبموافقتهم، تحوّل الجيش من مؤسسةٍ للشعب إلى ذراعٍ للعقيدة، ومن مشروعٍ وطنيٍّ إلى حصان طروادةٍ للحركة الإسلامية. ومن تلك اللحظة، لم تعد الحرب حرب دولة، بل حرب أيديولوجيا؛ صراعٌ تحركه فتاوى وكراهية وتاريخٌ طويل من استغلال الدين لتبرير القتل.

وفي دارفور، والجزيرة، والخرطوم، نفّذ ضباطهم أوامر القصف على الأحياء المأهولة بالمدنيين، وعلى المستشفيات والمخابز والمآوي، في جرائم موثقة بالصوت والصورة. لقد اختطف هؤلاء القادة شرف الجندية، واستبدلوا شعار الوطن بشعار “هيبة الجيش”، وجعلوا من الانضباط العسكري ذريعة للقتل العشوائي. من رفضوا التحقيقات في استخدام الأسلحة المحرّمة، ومن تستّروا على الانتهاكات ضد الأسرى، ومن أسّسوا اقتصادًا موازيًا لتمويل الحرب من ذهب الفشقة والتهريب عبر الموانئ، هؤلاء جميعًا شركاء في الجريمة. الجيش الذي كان يومًا مدرسة الوطنية تحوّل إلى كيانٍ مغلقٍ ينهب موارده باسم المعركة ويغتال أبناءه باسم القانون.

ولم يكتفِ هؤلاء القادة بما سفكوه من دماءٍ في وضح النهار، بل أضافوا إلى سجلهم وصمةً لا تُمحى، إذ استخدموا أسلحةً محرّمة دوليًا ضدّ أبناء وطنهم. ففي عام ٢٠٢٤، أكّدت تقارير أميركية أنّ القوات التابعة للجيش السوداني استخدمت غاز الكلور في أكثر من موقع، ليصبح الهواء نفسه أداة قتل، تُزهق الأرواح دون صوتٍ أو دخان. لم تكن تلك السابقة الأولى، فقد سبقتها جرائم مشابهة في جبل مرّة عام ٢٠١٦ وثّقتها منظمات دولية، حين أُطلق الغاز السامّ على المدنيين كما لو أنّهم أعداء في ساحةٍ أجنبية. هكذا انحدر جيش البلاد من شرف الدفاع إلى درك الإبادة، من حماية الأرض إلى تسميمها. حين يحمل الجندي زجاجة الموت بدل بندقيته، فإنّ المسألة لا تكون حربًا، بل سقوطًا أخلاقيًا كاملًا. إنها ليست معركة عسكرية، بل تجربة لقتل الضمير في أهدأ أشكاله؛ موتٌ بلا صوت، وذنبٌ بلا اعتراف.

لم يكن البرهان وحده، بل معه مجلس من الطامحين، من القادة الذين وجدوا في الحرب فرصة لإعادة نفوذ الإسلاميين إلى الحكم، فرفعوا راية “التحرير” وهم يمهّدون لعودة النظام الذي ثار عليه الشعب. سيذكر التاريخ أن جيش السودان قاتل شعبه بدل أن يحميه، وأن قادته استخدموا لغة الوطنية ستارًا للخيانة. سيذكر أن الطائرات التي حملت شعار الوطن قَصفت مدنه، وأن الجنود الذين أُقسموا على الشرف داسوا على أجساد الأطفال، وأن الضباط الذين لبسوا نجومهم بدماء الشهداء تاجروا بتلك الدماء في أسواق السياسة.

كلّ من بارك تلك القرارات أو سكت عنها أو روّج لبياناتها هو مجرم مثلهم؛ لأنّ الصمت أمام الخيانة خيانة، والتبرير أمام الدم مشاركة في سفكه. ومن هنا تبدأ الجريمة وتتمدد؛ فحين سقط شرف الجندية، سقط الوطن كلّه، وفتح الباب لكلّ طامعٍ خارجيٍّ ولكلّ ذراعٍ إقليمية تعبث بمصير البلاد. من هذه الفوهة انطلقت الرصاصة الأولى التي لم تُصِب العدو بل أصابت السودان في قلبه، ومن هذه القيادة انحدر الشرف الوطني إلى الهاوية. هؤلاء القادة لا يُحاكمهم التاريخ فقط، بل ضمير أمةٍ كاملةٍ أُعدمت على أيدي من زعمت أنهم حُماتها.

أما الدعم السريع، فقصته ليست قصة تمرّدٍ عابرٍ أو خلافٍ عسكريٍّ على السلطة، بل هي قصة هزيمة أخلاقية مكتملة الأركان. هذه المليشيا التي خرجت من رحم الدولة، تحوّل الكثير من جنودها إلى وحشٍ بلا ضمير، ينهش الجسد السوداني باسم الثورة والعدالة. من الجزيرة إلى الخرطوم، ومن الجنينة إلى الفاشر، تركت خلفها خرائط من المقابر، وأطلالًا من المدن، وأيتامًا يملأون الفضاء كالأشباح. ما ارتكبته هذه المليشيا لا يُعدّ حربًا، بل مشروع إبادة جماعية منظم ضد هوية السودان نفسها، حيث يُقتل الناس لأنهم من قبيلةٍ بعينها، أو لأنّهم رفضوا الخضوع لرايةٍ مزيّفة تزعم أنها ثورية.

لقد تحوّل قادتها إلى أمراء حربٍ يملكون المال والذهب والسلاح، ويبيعون الموت في أسواق السياسة الإقليمية. من نهبوا البنوك والمنازل، واغتصبوا النساء، وأحرقوا القرى، ليسوا “جنودًا” بل قطّاع طرقٍ يرتدون الزي العسكري لستر الاجرام. إنّهم لم يكتفوا بقتل الجسد، بل اغتصبوا الذاكرة، وكتبوا على جدران المدن أسماءهم بالحرق والدم. وحين يتحدث حميدتي عن “السلام” والكثير من جنوده عاثوا في الارض تقتيلاً وتنكيلا، فإنّ كلماته تصبح ليست سوى سخريةٍ سوداء من معنى الإنسانية ذاته.

لكن الحرب لم تُخض بالسلاح وحده، بل خيضت بالكلمة أيضًا، بالكاميرا، وبالصوت، وبالمنبر الذي تحوّل إلى سلاحٍ أشدّ فتكًا. الفضائيات العربية امتلأت بالمحللين الذين يملكون الجرأة على تبرير كل شيء؛ القصف، الاغتصاب، الإبادة، كلها تصبح في نظرهم “نتائج طبيعية للصراع”. وبصحفيّ السلطان الذبن يرفعون شعار “الجيش الوطني” دون كللٍ او مللٍ، وكأنّ القداسة تُغسل بها الدماء، أو يتحدثون عن “ثورة التصحيح” وكأنّها ثأر مقدّس. الإعلام الذي كان يُفترض أن يُنقذ الحقيقة، صار يقتلها ببطء. كلّ من ظهر على شاشةٍ ليمجّد طرفًا ويُبرّر ذبح المدنيين، هو مجرم وشريك في الجريمة. الكلمة التي تزيّن القتل لا تختلف عن الرصاصة التي تخرق الجسد، لأنّ كليهما يقتل المعنى ويصادر الرحمة.

وفي موازاة الإعلام الرسمي، اندلعت الحرب الإلكترونية، لا تقلّ شراسةً عن المعارك في الميدان. آلاف الحسابات المجهولة، وأخرى معلومة الهوية، ملأت فضاءات التواصل بخطابٍ يحضّ على الكراهية، ويبارك الدم، ويعيد إنتاج الانقسام بلغةٍ أكثر انحطاطًا. صار “التريند” ميدانًا افتراضيًا للمعركة، وصار المجرم بطلاً رقمياً، وصار المأجورون محللين سياسيين، يوزّعون الخيانة والبطولة كما تُوزّع الشائعات. لكنّ الأخطر من ذلك أنّ السودانيين أنفسهم، الذين كان يُفترض أن يوحّدهم الوجع، انقسموا إلى جيوشٍ رقمية متناحرة؛ يهاجم بعضهم بعضًا بوحشيةٍ لفظيةٍ تفوق أحيانًا وحشية السلاح. تحوّل “الفيسبوك” و”إكس” إلى ساحات إعدامٍ أخلاقي، تُنصب فيها المشانق اللغوية لكلّ من دعا إلى السلام أو وقف الحرب، وتُطلق عليه تهم الخيانة والعمالة والضعف، فقط لأنه قال؛ كفى دمًا.

انتشرت العنصرية كالنار في هشيم الوعي، فصار الشماليون والغرّابة والنيليون يتبادلون السباب بأسماء القبائل، وتحوّل التاريخ المشترك إلى أداةٍ للثأر لا للفهم. استُخدم الدين لتكفير الخصوم، واللغة للابتذال، والفن للسخرية، وصار الخطاب العام مساحةً لتعريةٍ أخلاقية جماعية. صار كلّ من دعا إلى التهدئة يُرمى بالجبن، وكلّ من دعا إلى المصالحة يُتهم بالعمالة. سقطت القيم السودانية الأصيلة، النخوة، التسامح، الكرامة، تحت أقدام جيوشٍ إلكترونيةٍ مأجورةٍ أو مهووسةٍ بقبائلها وأحقادها القديمة.

لم تكن هذه الحرب الرقمية مجرد انفعالٍ عابرٍ على المنصات، بل كانت استمرارًا ذكيًا وممنهجًا للحرب ذاتها بوسائل أخرى. من حارب بالسلاح وجد صدى له في من حارب بالكلمة، ومن أشعل النار في الأحياء وجد من يشعلها في العقول. صار الفضاء العام حقل تجاربٍ لتخريب الوعي السوداني، تديره جهاتٌ منظمة وتدعمه حساباتٌ خارجيةٌ تُضخّ فيها الأموال والمعلومات. وهكذا، بينما كانت الفاشر تحترق، كان السودانيون يخوضون معاركهم الوهمية حول من يستحق الموت أكثر، ومن هو “الوطني” ومن هو “الخائن”، كأنّهم جميعًا تخلّوا عن الوطن ليقاتلوا ظلال بعضهم.

لم يعد الإعلام، سواء الرسمي أو الرقمي، صوت الناس، بل سلاحًا بيد السلطة والميلشيا والدعاية. ولم تعد الكلمة وسيلةً للحقيقة، بل وسيلةً للاغتيال المعنوي. وهكذا تماهى الدم الواقعي مع الدم الرمزي، وصار القتل فعلًا لغويًا قبل أن يكون عسكريًا.

أما الفن، وهو الوجه الأجمل للإنسان، فقد دُمّر من الداخل. بعض الفنانين الذين تغنّوا بالسلام والحرية يومًا ما، انقلبوا اليوم ليغنّوا للرصاص. أصواتهم التي كانت ترفع الناس إلى سماء الأمل تحوّلت إلى أناشيدٍ عسكرية تمجّد الموت وتبارك الجريمة. الأغنية التي يُفترض أن تجمع، أصبحت تفرّق، والموسيقى التي تُداوي الجراح، أصبحت تصبّ الملح فيها. حين يغنّي الفنان لقاتله، وحين يرقص الشاعر على دماء قومه، يصبح الفن خيانة. لا جمال في صوتٍ يبرّر المذبحة، ولا معنى في لحنٍ يُخدّر الضمير.

ثم تأتي الكارثة الأكبر؛ المال. المال الذي لا ينام، المال الذي يجد طريقه إلى كل ساحة حرب، حتى لو أُغلقت كل الأبواب. الذهب السوداني، ذلك الذي كان يمكن أن يبني المدارس والمستشفيات، صار يُهرّب إلى أبو ظبي في طائراتٍ خاصة، ليُعاد تدويره في تمويل ذات الميليشيات التي سرقته من كلا الطرفين. مليارات الدولارات من العائدات تُضخّ في حسابات شركاتٍ غامضة، تُستخدم لشراء السلاح، لتجنيد المرتزقة، ولشراء الصمت الدولي. لقد تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، وتحوّل المستثمر إلى تاجر دم.

في دارفور تُقتل القبائل من أجل منجم، وفي الخرطوم يُقصف الحي من أجل صفقة، وفي الموانئ يُفاوض الدبلوماسيون على أنقاض المدن. من أبراجٍ لامعةٍ تُطلّ على الموانئ في الامارات، حيث تحوّلت الأموال إلى رصاص، والذهب إلى وقودٍ للموت. لم يكن ذلك سرًّا، بل نمطًا متكرّرًا موثقًا في تقارير دولية، ومسارًا دبلوماسيًا مُحكمًا تحميه لغة النفي والمناورة. لقد صُنعت منظومة كاملة للقتل من وراء الستار؛ شركات النقل الجوي، التجار، وسماسرة الذهب، جميعهم جزء من ماكينة دم باردة لا تعرف سوى الربح. حين يتحوّل المال إلى ذخيرة، والتجارة إلى ذريعة، والدبلوماسية إلى غطاء، فإنّ العار لا يزول بالتبرير، ولا يُمحى بإنكارٍ رسميٍّ مكتوب بعناية.

أما القاهرة، فحضورها في الحرب كان صريحًا كالشمس. جنودها الذين احتُجزوا في مطار مروي في الأيام الأولى للصراع كانوا الدليل الذي لا يُمكن إنكاره. القاهرة التي تعرف تفاصيل الجغرافيا السودانية أكثر مما يعرفها الخرطوم نفسه، لم تكتفِ بالمراقبة. هيّأت نفسها منذ البداية للانحياز الكامل إلى الجيش، ليس حبًا فيه بل حمايةً لمصالحها في وادي النيل، ومخاوفها من تمدد قوى لا تخضع لسيطرتها. بين استخباراتٍ ترسل المعلومات، وعتادٍ يُهرّب بطرقٍ غير رسمية، وخطابٍ سياسيٍّ يرفض أي دعوة إلى التفاوض مع الدعم السريع، بدا الموقف المصري استمرارًا لذهنية “الوصاية” التي لم تغادر عقل الدولة منذ عهد عبدالناصر. يصرّون على رؤية السودان من ثقب أمنهم القومي، لا من عيون شعبه. يدعمون الحرب باسم الاستقرار، ويخشون السلام لأنه يفتح المجال لتحررٍ سودانيٍّ حقيقيٍّ قد يُعيد تعريف المنطقة.

كلكم مجرمون. لأنّكم جعلتم من السودان مختبرًا للدم، ومن دارفور مرمىً للتجارب، ومن الخرطوم ميدانًا لتصفية الحسابات. كلكم مجرمون لأنّكم قتلتم الإنسان مرتين؛ مرةً بالرصاص، ومرةً بالتبرير. لأنّكم جعلتم الفنّ والدين والإعلام أدواتٍ للقتل، والمال لغةً للموت، والبيان الرسمي كفنًا للغسل السياسي. لا قداسة لأيّ منكم، ولا شرف في صمتكم. هذه الحرب لم تكن لتطول لولا أنكم جميعًا استثمرتم فيها.

لقد انتهى زمن الحياد، فالصمت اليوم جريمة. من لم يقل كلمةً في وجه القتل فهو قاتل، ومن يغني للحرب فهو مشارك في كل دمائها. سيكتب التاريخ يومًا أن السودان قُتل بأيدٍ سودانية وبتمويلٍ عربيٍّ وبصمتٍ عالميّ، وأنّ الذين جلسوا يتفرّجون من شاشاتهم كانوا شركاء في الجريمة. ستُذكر الأسماء كما تُذكر المعارك، وستبقى الفاشر شاهدًا على أن العار يمكن أن يتجسّد في صورة دولةٍ كاملة.

هذه ليست حربًا بين جيشٍ ومليشيا، بل بين الضمير والخيانة، بين من يريد وطنًا ومن يريد جثة وطن. وحين يسكت العالم عن الدم السوداني، فهو يسكت عن نفسه. ستنتهي الحرب يوماً، لكنكم أنتم من دعمتم ومن موّلتم ومن باركتم  ستظلون في الذاكرة كمجرمين، مهما لبستم من حرير الوطنية وبلاغة الدبلوماسية.

فالمعركة التي ظننتم كلكم ايها المجرمين انها بين جيشٍ ومليشيا، إنما هي في الواقع بين أمةٍ وضميرها، بين وطنٍ يحاول أن يعيش، ونظامٍ كاملٍ قرّر أن يعيش على جثّته. الحرب ليست حدثًا عابرًا في التاريخ السوداني، بل هي مرآةُ انكسارنا الأكبر، انكسار النخبة والمجتمع والدين والسياسة والإنسان نفسه. كلّ ما تهدّم من بيوتٍ ومدارس ومستشفيات يمكن أن يُبنى من جديد، إلا الضمير حين يُهدَم. الضمير، يا سادتي، هو آخر ما تبقّى من الوطن في قلب الفرد، فإذا مات الضمير مات الوطن ولو ظلّت الجغرافيا قائمة.

في السودان اليوم، لم تَعُد القضية مَن ينتصر في الميدان، بل مَن يجرؤ على الاعتراف بالعار. من يملك الشجاعة ليقول إننا جميعًا خسرنا. إنّ أول خطوة نحو الخلاص أن نعترف أننا غرقنا في الدم، وأننا قتلنا أبناءنا بأيدينا، وأنّ كلّ رايةٍ رُفعت باسم الله أو الوطن أو الثورة كانت في النهاية ستارًا لذبح الحقيقة. لقد صار الدم أداةَ خطابٍ سياسي، وصارت الجثث مفرداتٍ في بيانٍ عسكري، وصار الوطن مشهدًا متكرّرًا في نشرات الأخبار، بلا حياةٍ ولا ذاكرة.

وإن كانت الفاشر قد قتلت بسلاح ابنائها، فإن السودان كله قد ذبح بالتواطئ والخذلان وبالصمت. لم تقتلنا الرصاصة بقدر ما قتلنا التبرير، ولم يدمّرنا الخارج بقدر ما دمّرنا الداخل حين صدّق الأكاذيب وعبدة الأصنام الجديدة من السياسيين والجنرالات والدعاة والإعلاميين. هذا الخراب لم ينزل من السماء، بل خرج من بيننا نحن، من شقوق خوفنا وطاعتنا وعجزنا، من قابليةٍ مَرَضيةٍ لتقديس الجلاد وشيطنة الضحية.

لقد آن الأوان أن نخلع عن أنفسنا هذا القناع الجمعي من الكذب. أن نعترف بأننا لم نكن أوفياء لثورتنا ولا لأحلامنا، وأننا سمحنا للسلاح بأن يُعرّف الوطن بدل أن تُعرّفه العدالة. لا نجاة من هذه الحرب إلا بفضحها، ولا سلام إلا بعد أن نُسمّي المجرمين بأسمائهم، دون خوفٍ أو حساب. من قتل يُسمّى قاتلًا، ومن موّل يُسمّى شريكًا، ومن صمت يُسمّى متواطئًا، ومن كتب للتبرير يُسمّى مجرمًا بالقلم. هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها التاريخ، لأنّ التاريخ لا يقبل الأعذار ولا يبرّر النوايا.

سيأتي يوم وربما لا يكون قريبًا، يُرفع فيه التراب عن المقابر الجماعية، وتُقرأ أسماء الضحايا لا كأرقامٍ في تقريرٍ أممي، بل كأسماءٍ لأناسٍ كانوا هنا. يومها سيعلم كلّ من ساهم في هذه الجريمة، من قائدٍ أو صحفيٍّ أو فنانٍ أو رجلِ دينٍ أو دولةٍ عربية، أن العدالة لا تسقط بالتقادم. لأنّ العدالة ليست محكمة، بل ذاكرة. والذاكرة لا تنسى.

كلكم مجرمون، لأنكم صنعتم من السودان مذبحةً مفتوحةً على الشاشات، ووقفتم أمامها بين صامتٍ ومتفرّجٍ ومصفّق. كلكم مجرمون، لأنكم جعلتم من الله تبريرًا للحرب، ومن الوطن ذريعةً للنهب، ومن الإعلام أداةً للتعمية، ومن الفن غطاءً للعار. كلكم مجرمون لأنكم نزعتم عن الإنسان إنسانيته، وأعنتم الوحش على البقاء حيًّا فينا.

لكن ما لا تعلمونه أن المذبحة، مهما طال زمنها، لا تنتصر. لأنّ الشعوب التي تُباد لا تموت، بل تتحوّل إلى ذاكرةٍ حادّةٍ تلد من رحم الرماد وطنًا جديدًا. سيولد السودان من جديد، لا برعاية الجنرالات ولا بمؤتمرات الخارج، بل بضمير الذين لم يتلوثوا بعد، الذين ما زالوا يؤمنون أن الدم لا يُطفئه إلا الحق، وأنّ الوطن لا يُبنى بالسلاح بل بالصدق. سيأتي زمنٌ تُحاكم فيه الكلمات كما تُحاكم الرصاصات، وسيعرف الناس أنّ أخطر ما في هذه الحرب لم يكن القنابل، بل الأكاذيب التي جعلتها ممكنة.

عندها فقط، حين يعود الإنسان إلى نفسه، سيسقط كلّ طاغية، وكلّ كاذبٍ تغنّى بالوطن وهو يبيعه. وعندها، سيقف السودان من جديد، ممسكًا بجرحه كمن يمسك علمه، ويقول للعالم؛ لقد قُتِلتُ كثيرًا… لكني لم أمُتْ بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..