مقالات وآراء

من الإنقاذ إلى تأسيس: غسيل الباطل بالدم والذهب.. والجنجويد مقاول حرب لا ثورة

 

لم تبدأ المأساة من اليوم، ولا من فراغ، بل خرجت من رحمٍ واحدٍ أنجب كل هذا الخراب: تنظيم الحركة الإسلامية ونظام الإنقاذ.ذاك التنظيم الذي اغتصب الدولة بانقلابٍ عسكري، حوّل مؤسساتها إلى أدوات حزبية، وفتح أبوابها للمليشيات والمرتزقة والمضاربين في دماء الشعب السوداني.

الإنقاذ أقامت برلمانًا من الورق واحزاب الفكة والفاسدين في الأرض ، مجلسًا بلا شرعية، يشرّع الباطل ويغسل الجريمة بماء القانون المزيف.من هناك خرجت قوانين تقنّن السلاح المنفلت، وتمنح “الجنجويد” صك الوطنية، وتبدّل الدم بالذهب، والقتل بالشرعية، والنهب بالاقتصاد.كان كل ذلك مسرحًا كبيرًا لـ شرعنة القتلة وتحويلهم إلى “قوات نظامية”، فيما العالم يراقب والدولة تنهار قطعة قطعة.

أولاً: برلمان الإنقاذ غير شرعي
“برلمان الإنقاذ” تنظيم الحركة الإسلامية (أي المجلس الوطني الذي أنشأه نظام الإنقاذ بعد انقلاب 1989) لم يأتِ بانتخابات حرة أو بدستور شرعي، بل نشأ من انقلاب عسكري أطاح بنظام ديمقراطي منتخب (حكومة الصادق المهدي).وبالتالي فهو نتاج سلطة انقلابية، أي سلطة مغتصبة للحكم وفقاً للدستور السوداني لعام 1985 والمواثيق الدولية.أي قوانين أو قرارات صادرة عنه لا تستند إلى إرادة شعبية أو شرعية دستورية

ثانيًا: شرعنة المليشيات (الجنجويد / الدعم السريع)
حين أصدر برلمان الإنقاذ قوانين “تقنّن” وجود قوات الجنجويد أو تمنحها صفة رسمية تحت مسمى “قوات الدعم السريع”، فقد فعل ذلك ضمن منظومة لا شرعية أساسًا.بالتالي:لا يمكن قانونًا أو أخلاقًا اعتبار تلك الشرعنة صحيحة.لأن ما بُني على باطل فهو باطل، وهذا مبدأ قانوني راسخ.إدماج الجنجويد في مؤسسات الدولة أو منحهم رتبًا عسكرية لا “يسودنهم” (أي لا يجعلهم مؤسسة وطنية شرعية) طالما لم يكن هناك دستور أو تفويض شعبي.

ثالثًا: القياس على محاكمة مدبّري انقلاب 1989
إذا كنا نحاكم مدبّري انقلاب 1989 على أنهم قوّضوا النظام الدستوري الشرعي، فإن المنطق نفسه يجب أن يُطبَّق على كل ما نتج عن ذلك الانقلاب.بمعنى:إذا كان الانقلاب غير شرعي، فكل مؤسسات الدولة التي نشأت منه غير شرعية.القوانين، والبرلمانات، والميليشيات التي أنشأها أو شرعنها الانقلابيون لا تُكسب شرعية بمرور الزمن.لذلك، شرعنة الجنجويد عبر برلمان الإنقاذ تشبه شرعنة الانقلاب ذاته: غطاء شكلي لقوة الأمر الواقع، لا مشروعية قانونية حقيقية.

لكن الأخطر لم يكن ما فعلته الإنقاذ وحدها، بل ما فعله تحالف تأسيس لاحقًا — التحالف الذي خرج بوجه مدني ناعم ليعيد تدوير الجنجويد في ثوب سياسي جديد.تأسيس لم يكن مشروعًا سياسيًا وطنيًا، بل كان عملية غسيل أموال سياسية وعسكرية واقتصادية واسعة النطاق.لقد مارس بالضبط ما فعلته الحركة الإسلامية من قبل: أعطى المليشيا غطاءً سياسيًا، ومنحها خطابًا مدنيًا، وفتح أمامها المنابر لتطل كفاعل سياسي “شرعي”، بينما سجلها الدموي يقطر جريمة من دارفور إلى الخرطوم.في مسرح تأسيس، اختلط المال بالسلاح، وامتزج الخطاب المدني بالبيان العسكري.شركات الدعم السريع، ذهب جبل عامر، واستثمارات ما بعد الحرب، صارت كلها وقودًا لمشروع تبييض كبير:تبييض المليشيا، وتبييض المال، وتبييض الوجه القبيح لنظامٍ فشل في أن يكون دولة واحترَف أن يكون عصابة.تأسيس، في جوهره، هو امتداد الإنقاذ بعد أن غيّر الجلباب.الذين غنّوا للديمقراطية اليوم هم ذاتهم من شرعنوا الدبابات بالأمس، والذين رفعوا شعارات المدنية صاروا غطاءً سياسياً لمليشيا ما زالت تقتل وتنهب وتخطف.الاختلاف الوحيد أن المشهد اليوم يُدار بلغة مدنية مُخدّرة، لكن المضمون هو نفسه:السلطة بالسلاح، والثروة بالدم، والمجد بالزيف.

📍الجنجويد.. مقاول حرب لا مشروع ثوري
لم يكن الجنجويد يومًا مشروعًا ثوريًا أو قوة تغيير وطني، بل كان مقاولًا عسكريًا بالأجرة، أُنشئ ليؤدي وظيفة محددة: تنفيذ المهام القذرة التي لا يستطيع الجيش الرسمي المجازفة بها.هو ذراعٌ خاص للحروب القذرة، نموذج سوداني لفاغنر الروسية وبلاك ووتر الأمريكية، حيث تُستبدل العقيدة العسكرية بالعقود المالية، والوطنية بالولاء للمموِّل.هذه القوة لم تولد من رحم الثورة، بل من صفقات النظام القديم الذي أراد أن يحارب شعبه بأدواتٍ خارج القانون.نُظِّمت الجنجويد أولًا كمرتزقة محلية في دارفور، ثم جرى تدويرها عبر “قانون الدعم السريع” لتتحول من مقاول دم إلى مؤسسة رسمية — كمن يمنح شركة أمنية خاصة علَمًا وطنياً ويُسميها جيشاً.لم تقاتل الجنجويد من أجل مشروع وطني، بل من أجل عقود الذهب والمناجم والتهريب والموازنات الخفية.ولذلك، فإن محاولة تصويرها كـ “قوة ثورية” أو “حارس للثورة” هو تزوير فجّ للتاريخ.هي قوة تبيع السلاح والدم لمن يدفع أكثر — نظام الإنقاذ بالأمس، وتحالفات تأسيس اليوم، وأي جهة تضمن استمرار نفوذها غدًا.الجنجويد ليست ثورة، بل شركة حربٍ عابرة للولاءات، شعارها المال لا الوطن، وسجلها الممتد من دارفور إلى الخرطوم شاهد على أنها لم تكن سوى مقاول دمٍّ مأجور أعيد تلميعه سياسياً لخدمة مشروع الهيمنة لا مشروع الوطن.

لا يمكن لأي عملية سياسية أو تسوية أو إعلان مبادئ أن تمنح شرعية لقوةٍ وُلدت من رحم اللاشرعية.الإنقاذ انقلبت على الدستور، والبرلمان كان واجهتها، وتأسيس هو وريثها الطبيعي في تبييض المجرمين ورفعهم إلى مقام الساسة.ما بُني على باطل سيظل باطلاً، وما تَشرعن بالقوة لن يُصبح يومًا شرعيًا ولو زُيّن ببياناتٍ مدنية وأسماءٍ جديدة.إن من يقف اليوم خلف تأسيس إنما يمدّ عمر الإنقاذ بثوبٍ جديد، ويمنح الجنجويد صكّ الغفران السياسي والاقتصادي، ويدفن ذاكرة الدم في ركام البيانات.لكن الذاكرة لا تموت، والجرائم لا تُغسل، والذهب لا يُلمّع الجريمة.السودان لا يحتاج لمزيدٍ من تبييض الوجوه، بل لمحاسبةٍ كاملة تمتد من قصر الإنقاذ إلى معسكرات الجنجويد، ومن قوانين البرلمان المزيف إلى بيانات تأسيس المضلّل

انتبهوا: لا نصير مستودعًا لمياه غسيل القذارة، ولا نسمح أن تُؤبَّد فينا الدياسبورا كفاعلٍ سياسي تُحرّكه وتوجِّهه الأطراف الخارجية — الأميركيون والرباعية وغيرهم.لن نكون مكبًا لانعاش مصالحهم ولا ساحة لتبييض ماضي القتلة.ومع ذلك، نحن نتمسّك بالهدنة — بكل ما نملك من قوة — لأنها لحظة إنقاذٍ للشعب لا غطاءً لامتصاص الدم والذهب.من أراد بناء وطن، لا يبدأ من غسيل القتلة.ومن أراد العدالة، لا يتحالف مع من غرس في الأرض أول بذرة للخراب.فكل طريقٍ يبدأ من الإنقاذ وينتهي بتأسيس، ليس طريق وطن، بل سلسلة مستمرة لغسيل الباطل بالدم والذهب.

‫2 تعليقات

  1. (( ثانيًا: شرعنة المليشيات (الجنجويد / الدعم السريع)
    حين أصدر برلمان الإنقاذ قوانين “تقنّن” وجود قوات الجنجويد أو تمنحها صفة رسمية تحت مسمى “قوات الدعم السريع”،)) كذلك رضيت ثورتكم الحمدوكية الإماراتية وأقرت وتعاملت مع هذه القوات باعتبارها قوات شرعية بل قدمتها على الجيش ووضعت هالكها حميتي على رأس لجنة الاقتصاد بدل الخبير حمدوك .
    الساسة في السودان جلهم من طينة واحدة مصالح احزابهم بل مصالحهم الخاصة مقدمة على أي مصلحة عامة
    من كان بلا خطيئة فليرمها بحجر

    1. يا كوز يا مطرطش
      ثورة ديسمبر المجيدة إتعاملت مع واقع أليم فيه جيش تافه ودعم سريع يماثله في النفاهة
      وكان هذا الدعم قد تم تقنينه كجيش رسمي من قبل برلمان الكيزان بل وتغنت له أخوات نسيبة أنهم يمكن أن يناموا مطمئنين في وجوده
      بس في لحظة فارقة كان الجيش في طريقه لإبادة الثوار المعتصمين في القيادة ورفض حميدتي قايد الدعم السريع ذلك
      ودي خلت منظره بالنسبة للثورة كويس
      لكن ورغم ذلك الثورة لم تتخلي ولا لحظة عن شعار العسكر للثكنات والجنجويد ينحل ويتبعها شعار أساسي أي كوز ندوسو دوس
      فمن الغباء الذي لا يليق إلا بكوز أن تساوي بخطايا قحت تجاه الدعم والذي تعاملت معه كواقع زيه و زي جيش كله كيزان وبين الكيزان الذين
      أنشأوا الدعم السريع وقننوه وحين تمرد عليهم بدت الجقلبة وديل مليشيا ساكت
      في حرب الجنوب شابكننا الماتو في الحرب شهداء وعرسناه للحور العين
      شوية كدا وإنقسم الكيزان فخرج عرابهم بأن القتلي ديل فطائس ساكت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..