مقالات وآراء

حقيقة أنا بفتكر إنو”… أمام مرآة الحَلَّاج مقاربة في وجع الروح وكسوف المعنى

 

في حكايات الشعوب لا تغيب الندوب، بل تظلّ تلمع كلّما لامستها الذاكرة. وما بين تاريخٍ مثقلٍ بالخيبات، ونفوسٍ تلهث خلف مجدٍ مفقود، تنكشف قصةُ الحركة الإسلامية في السودان، لا بوصفها مشروعًا سياسيًا فحسب، بل كعرضٍ نفسيٍّ جماعيٍّ حمله رجالٌ خرجوا من الهامش بأحلامٍ أكبر من وعيهم بها، فهوت بهم البلاد في هاويةٍ لم يُعرف لها قاعٌ بعد.

لقد جاء هؤلاء من بيئاتٍ بسيطةٍ محدودةِ العلاقات، مغلقةٍ على ذاتها، لا تعرف التدرّج الاجتماعي، ولا أدوات الحوار، ولا الذوق المدني في التعامل مع الآخر. كانوا أبناءَ مجتمعٍ ضيّق الأفق، يعتمد على الانغلاق أكثر من التواصل، وعلى الحذر أكثر من الثقة. وحين أُتيح لهم أن يصعدوا إلى قمة السلطة، حملوا معهم هذا النقص النفسي المتراكم، وحاولوا — بجهدٍ محمومٍ ومربك — أن يخلعوا عن أنفسهم رداءَ البساطة القديمة، وأن يرتدوا قناع “النخبة المثقفة” التي يُشار إليها بالبَنان.

فجأةً صاروا يتحدثون بلغةٍ لا يعرفونها، ويستخدمون مفرداتٍ ثقافيةً لا تمتّ إلى بيئتهم بصلة، كمن يخصف على جسده خرقةَ التمنّي، ويحاول إقناع المرآة بأنه قد تغيّر. لكنّ القشرة لا تغيّر الجوهر، والمعرفة لا تُحاكى، والثقافة لا تُستعار. وهكذا وُلدت داخلهم عقدةُ العلاقات الاجتماعية، عقدةٌ تتجلّى في خوفهم من الاختلاط، وفي رغبتهم العمياء في السيطرة بدل التواصل. أرادوا أن يكونوا مثقفين فوق الناس لا بينهم، فاستبدلوا الحوار بالأمر، والمشاركة بالإقصاء، والوعي بالشعار.

ولم تكن لغتُهم اليومية بعيدةً عن هذا الاضطراب الداخلي، فقد اشتهر أفرادُ الحركة الإسلامية بترديدهم لجملة: “حقيقة أنا بفتكر إنو…”، كأنهم أرادوا بها أن يُضفوا على حديثهم مسحةَ تفكيرٍ وتأملٍ مصطنعة، تحجب فراغ الفكرة وضعف الأسلوب. كانت محاولةً لغويةً لتقليد لغة النخبة، ومسح أثر جملةٍ سادت عند تنظيمٍ آخر: “أنا زي عايز أقول في الحتّة دي…”. في اللاوعي الجمعي للحركة، لم تكن اللغة أداةَ تواصل، بل وسيلةً للتنكر للماضي وتزييف الانتماء. وهكذا تحوّل الخطاب نفسه إلى عرضٍ نفسيٍّ من أعراض “عقدة النقص الثقافي” التي حاولوا علاجها بالتصنّع.

لقد كانت الحركة الإسلامية، منذ بداياتها، مزيجًا من الدين والرغبة؛ دينٌ يتلوّن حسب الحاجة، ورغبةٌ لا تشبع في التملّك والظهور. ومن رحم هذه الرغبة خرج مشروعهم السياسي، محمّلًا بكلّ ما كمن في أعماقهم من جوعٍ قديم، وغيرةٍ دفينة، وإحساسٍ دائمٍ بالدونية تجاه النخب الحقيقية. لذلك رأيناهم، حين وصلوا إلى الحكم، يُلغون كلَّ من يختلف عنهم، لا لأنهم يخافونه سياسيًا، بل لأنّ وجوده يذكّرهم بما لم يستطيعوا أن يكونوه.

إنّ الفقر حين لا يُعالج بالوعي يتحوّل إلى حقدٍ صامتٍ على الذاكرة.
فالفقر في جوهره ليس عيبًا، بل امتحانٌ للروح، ومحرّضٌ على الكرامة إن صين بالوعي.
لكنّ هؤلاء الذين وُلدوا في العدم لم يتصالحوا معه، بل حوّلوه إلى سلاحٍ ضد المجتمع. فأخذوا يعاقبون الناس لأنهم يرون فيهم انعكاسَ ذواتهم القديمة؛ ينهبون خزائن الدولة ليمحوا أثر فقرهم الأول، ويتحدثون باسم الله ليُسكِتوا صوت النقص في دواخلهم.

ومن هنا بدأت العزلة عن العالم، قبل أن يُولد “الدعم السريع” وقبل أن ينفجر العنف الداخلي. افتعلوا العداء مع العالم، لأنّ الذهنية المنغلقة لا ترى في الآخر شريكًا بل خصمًا. كانت سنواتُ العزلة تلك بدايةَ السقوط الكبير، حين قُطعت جسورُ السودان مع العالم، وتحوّلت الدولة إلى قلعةٍ من الريبة والإنكار. ثم جاء زمنُ “الدعم السريع” ليُكمل الدائرة: الوحشُ الذي صنعوه بأيديهم، لينفلت من قيدهم ويلتهمهم مع الوطن كلّه.

إنّ الخراب الذي نعيشه اليوم ليس صدفةً سياسية، بل نتيجةُ عُصابٍ جماعيٍّ ممتدٍّ من الماضي، حيث لا يزال اللاوعي الجمعي لتلك الجماعة يحكمها. إنهم مرضى بالتاريخ الذي لم يتصالحوا معه، وأسرى لفقرٍ لم يغادر عظامهم وإن امتلكوا المال والذهب. فالمركّب النفسي العميق الذي يسكنهم هو محاولةٌ دائمةٌ لتجميل القبح الداخلي بتديّنٍ صاخبٍ ومظاهر جوفاء من الترف.
لكنّ الجسد حين يمرض من الداخل لا تنفعه أثوابُ الحرير.

ولو نظرنا إلى سلوكهم اليوم، لوجدنا أنّ ما يفعلونه بالوطن ليس سوى استمرارٍ لرحلتهم الشخصية في محو الذات:
يُقصون لأنهم أُقصوا.
يُهينون لأنهم أُهينوا.
يكدّسون الثروة لأنّ الفقر ما زال يسكنهم كعقابٍ لم ينجوا منه.

وهنا يعود الحلاج من زمنه القديم، ليكون مرآةً لهذا الوجع الحديث. الحلاج الذي قال: “ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله”، كان يرى في الفقر مدخلًا للنقاء، وفي المعرفة سبيلًا للتحرّر من الخوف. أمّا هم، فحوّلوا الدين إلى قيدٍ، والفقه إلى وسيلة تبريرٍ لعُقدهم.
الحلاج صعد إلى صليبه متطهّرًا، وهُم صلبوا الوطن كي يطهّروا أنفسهم من تاريخٍ ظنّوه عارًا.

إنّ السودان اليوم يقف على رماد مشروعهم: مدنٌ تحترق، وشعبٌ مشرّد، واقتصادٌ مفكّك، وحدودٌ مفتوحةٌ لكلّ الطامعين. لا جيشَ واحدًا، ولا صوتًا موحّدًا، ولا ظلًّا لوطنٍ آمن. كلّ ذلك لم يكن نتيجةَ حربٍ طارئة، بل امتدادًا لمرضٍ نفسيٍّ طويلٍ تسلّل من سراديب التاريخ إلى شرايين الدولة.

وفي نهاية هذا المشهد المأساوي، يبدو الوطن كجسد الحلاج، مصلوبًا بين السماء والأرض، ينزف من جراحٍ صنعها الذين ظنّوا أنهم وكلاءُ الله.
لكنّ الفرق أنّ الحلاج قُتل لأنه قال الحقيقة، وهُم يقتلون لأنهم يخافون سماعها.

سيبقى الحَلَّاج رمزًا للصفاء، وهم رمزًا للزيف.
فمن عرف الله بالحبّ خُلّد، ومن ادّعى معرفته بالسلطة فني في طغيان نفسه.

 

‫2 تعليقات

  1. منهم الترابي المفكر ومنهم علي عثمان المثقف ومنهم علي الحاج الداهية ومنهم كثير خرجوا من رحم هذا المجتمع الذي خرجت انت منه وخرج منه اهل اليسار هم أبناء بيئات السودان الاجتماعية والثقافية المختلفة معظمهم تخرج من اعرق جامعة في السودان ودرس اعلى الدراسات في أوربا وامريكا مثلهم كأهل اليسار السوداني.
    توصيفك به تعميم ضار قد ينطبق بعض وصفك على جزء كبير من المنتمين للأحزاب السودانية يمين ويسار الباحثين عن الشهرة والمال والمكانة الاجتماعية بطرق سريعة دون اكتساب المؤهلات الحقيقية لهذه المكانة .
    نعم هذا الوصف قد ينطبق على كثير من المتخوضين في السياسة في السودان لا سيما الجيل الناهض جيل الثورة .
    نعم مجموعة المؤتمر الوطني( وليس الحركة الإسلامية لان حركة الإسلام في السودان حركة مجتمع مسلم منتظمة في جل أنشطة المجتمع ) هذه مجموعة سياسية (المؤتمر الوطني) دخلت في تجربة سياسية كانت ضارة جدا لها وللسودان هي سبب رئيسي في الوضع الماثل في السودان كما ان معارضيها في اليسار والطائفية تسببوا في جزء معتبر من هذا الوضع الماثل وذلك بمعارضة ارتمت في أحضان المخابرات الأجنبية ولم تقدم مصلحة السودان على مصالحها الساعية للحكم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة . الخلاصة ان الكل له اسهام في وضع السودان الماثل

    1. غايتو الكوز دا ما فهم ولا كلمة من هذا المقال المدهش
      كاتب المقال مستوعب تماما لمبادئ التحليلي النفساني
      الزول دا ممكن يشكل مع مجدي إسحق ثنائي مدهش
      ويتمعقوا في هذا البعد الغائب كثيرا عن المثقفين السودانيين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..