وداعاً للمرؤة!

ما هى إلا بضع دقائق من دخولها المنزل-وقد حضرت إلى السودان في إجازة قصيرة مع زوجها- حتى رنّ جرس الباب. كان الطارق أو الطارقة شابةً في مقتبل العمر ترتدي ثوباً جميلاً وردي اللون قد لفته بعناية حول قدّها الميّاس. مصباح الشارع الشاحب يسقط على صفحة وجهها فيكسبه ذلك الجمال الهادىء.. شرعت الشابة بتزويدها بكافة أخبار الحي ما يوحي بعمق صلاتها بإهله..”صلاح خلاص رجع من السعودية بعد ما تمّ عمارته الفي الشارع الورّاني وأجَّر الشقتين الفوق”..”أم سلمة سافرت بورتسودان عندهم بكاء”.. “حاجة ست النفر كانت راقدة في مستشفي الزيتونة ومرقت امبارح بس”..الخ.

بعد أن فرغت الفتاة من نشرة أخبار الحيّ أنتحت بها جانباً وقد كست وجهها غلالةٌ خفيفة من الحزن وبصوتٍ خفيض .. “أنا عاوزاك في موضوع حساس شوية، وأنا والله لوما اتوسمت فيك الخير ما بصارحك بيهو”. انتبهت إلى أنها نسيت أن تدعوها للدخول، إلا أن المراة اعتذرت بأنها “لازم تمشى عشان تذاكر مع الأولاد” و بدأت حكايتها.. “ولدي كان بلعب الكورة مع أصحابه في المدرسة، وقامت الكورة طارت وضربته في عينه، من الوكت داك بقى عنده صداع ما بفارقه كله كله وده أثّر على نتيجته”.. ثم استطردت وقد تهدّج صوتها وكأنها على وشك البكاء..”إتخيلى جاب نسبة 53 % بس مع إنه دايماً كان بطلع الأول على الفصل” وقبل أن تكمل الفتاة قصتها المأساوية.. وفي لحظة جامحة أعطت صاحبة الدار لعقلها “إجازة عارضة ” انطلقت على إثرها عواطفها مثل سيارة قد تعطّلت كوابحها (فراملها)، وقد ابتلاها الله بذلك الداء الذي لم تفلح قوافل المقالب والصدمات في أن تستأصله أو حتى تحد من سطوته. أخبرتها أنها قد وصلت لتوِّها من السفر وليس معها نقود. وبما أن زوجها لم يكن موجوداً ،ً طلبت منها أن تحضر في صباح الغد…ثم – والسيارة في أقصى درجة اندفاعها-“وإن شاء الله ادفع ليك تكاليف العملية “كلها” كمان”.

عندما رجع زوجها حكت له مأساة المرأة منددةً في الوقت نفسه بالزمن الجائر الذي اضطر تلك المرأة المقهورة لمد يدها بعد أن جاءت تلك الطبقة الطفيلية لتحتكر المال والسلطة وتسحق ما عداها من الطبقات.

و قبل أن تواصل “مسيرتها” في مواكب الشجب والاستنكار، أوقفها زوجها ليقول لها ساخراً أن تلك المرأة بعينها (أم الولد الذي ضربت عينه الكرة) قد جاءته العام الماضي وأعطاها “الفيهو النصيب”..

لاحقاً عَلِمَت أن تلك المرأة قد طافت ببيوت جميع أهل الحي وهي تحمل في جعبتها ذات الديباجة دون أن يسعفها ذكاؤها في تغيير تفاصيلها، ولعلها أيضا كانت تتحين لحظة خروج زوجها لتمارس لعبتها.

****
فيما كان يحث الخطى في طريقه لمكان عمله استوقفه شابٌ أنيق مهندم يضع على عينيه نظارة “بيرسول” ويحمل بيمناه شنطة “سامسونايت” .. “ياخي بالله لو سمحت أنا نسيت موبايلي في البيت وعندي مقابلة مع عميل مهم في الشركة عاوز السكرتيرة تثبته قبل ما إزهج ويفوت، أصلي اتأخرت عليه “ألو، ألو.. أيوه يا سوسن..أنا ما سامعك.. الزبون جاء؟ سوسن إنتٍ سامعانى..كدي دقيقة أبعد من “الرجّة” دى شوية عشان أقدر اسمعك…و..ابتلعه الزحام.

هذه الشريحة من البشر جاءت لتسدل الستار على اخر الفضائل التي كانت تميِّز مجتمعنا هي نتاج طبيعي لما وصل إليه حال المجتمع من انهيارٍ كامل فى القيم الاخلاق.

والآن بعد أن تطاول القوم في البنيان.. وتهادت سيارات “البرادو” المظللة في الشوارع الإسفلتية..وامتلأت أرفف المحال التجارية بكافة أنواع البضائع العالمية، رأت تلك الشريحة أن تواكب تلك الطفرة الاجتماعية ليصبح العنصر الأساسى فى نجاح عملياتها ذلك المظهر الراقي الذي يساعدها على رفع سقف مطالبها .

والآن ليت نساءنا، وقد ورثن جينات المروءة والاحسان من الآباء والأجداد أن لا يشرعن أبوابهن لكل امرأة قبل التأكد من هويتها بصرف النظر عما ترتديه من آخر خطوط الموضة، والتي قد يختبئ بين طياتها من الجرائم ما لا يخطر على البال أو الخاطر.

بدور عبدالمنعم عبداللطيف
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..