مسارات الثائر ورحاب البطولة!

في ذكرى رحيل أيقونة الحي العتيق الشهيد علي فضل
(1)
من السذاجة أن تحاول بالطرق الديمقراطية تغير نهج نظام دكتاتوري، علاج النظم الاستبدادية في اقتلاعها من جذورها والقذف بها في مزبلة التاريخ لا غير، وخطورة نهج مقاومة سلطة الاستبداد بالوسائل الديمقراطية ليس فقط في ذاك الاعتراف الضمني بسلطتها كأمر واقع وإنما في إضفاء الشرعية المجانية بكرم حاتمي عليها وهو ما ترغب فيه نظم الظلم والطغيان وتبحث عنه بجنون لأنها تعلم جيدا بأنها تفتقد الشرعية أمام شعوبها.
(2)
قوى التغيير إن كانت صادقة وحريصة على مسعاها الكفاحي عليها أن تحدد وسائل نضالها وخياراتها الثورية التي تخدم هدفها المنشود وتسعى مباشرة عبر ذلك لانجازه دون مناورات بائسة ومماحكة فطيرة لن تعود عليها سوى بمزيد من الآلام والدموع فكل من يأمل اليوم في الوصول لحل جذري للازمة الوطنية عبر الحوار مع نظام الإنقاذ هو بلا شك يحرث في البحر ويمني النفس بالسراب وسيظل ينتظر طويلا على تخوم الوهم أن تتحقق أحلام “زلوط”.
(3)
فتركيبة النظام ونهجه الفكري لن تسمح بحوار جاد ونقاش حر يتناول جذر الأزمة لأنه يعلم جيدا أن في ذلك نهايته وزوال سلطته وسيهزم شيوخه المنتفعين كل محاولة رامية لما يسميه بعض الساسة الحالمين “بالهبوط الناعم أو التفكيك السلمي” فالتغيير الحقيقي عمل ثوري محض محاط بالخطر وبحاجة للجسارة والإقدام وهو ليس نزهة برية أو في ترف المشاركة في الندوات السياسية و”البرطعة” أمام الميكرفونات على طريقة برنامج “كلام نواعم”.
(4)
للثورة وفعل التغيير ديناميكية خاصة لا مجال فيه للثرثرة، فخصائصه العملية بطبعها ترفض الوهم والشعارات غير الواقعية وينحصر جل الهم في كيفية تطويع الواقع وتحريكه من حالة الخمود والسكون لحالة من الحراك الدائم والتفاعل المستمر الذي تغذيه طاقة دفع التناقضات الباطنية لبلوغ لحظة الانفجار الثوري والمشاركة في تلك اللحظة التاريخية الهامة والمفصلية هو اختيار وانحياز حر بقناعة راسخة لا سبيل فيه لتراجع أو محاولة تحقيق البطولة بالنقاط فالثورة عمل خاطف يتم بالضربة القاضية الفنية وكما قال لينين”:ليس من الصّعب على المرء أن يكون ثورياً عندما تندلعُ الثورة، وتشترك فيها الجماهير. ولكن الأصعب من ذلك بكثير أن ينتهج خطاً ثورياً عندما لا تكون الظروف قد نضجت بعد من أجل الانفجار الثوري”.
(5)
لهذا نجد عدد الثوار محدوداً في تاريخ البشرية، ومناضلي كل المواسم عملة نادرة أما مناضلو “القطاعي” فكثر بيد أن محدودية العطاء الذي يسم مسيرتهم وضيق الأفق الثوري وفائض الثرثرة تجعل منهم “أرجوزات” ثورية سرعان ما تلفظها وتمحوها ذاكرة الشعوب وينسى التاريخ وجودهم ليتحول الفرد منهم بمرور الأيام وانحسار اهتمامه بالهم العام والاستسلام لرتابة الروتين من ثائر منحاز لقضايا الجماهير ينشد العلاء وتحقيق الأهداف السامية إلى مجرد موظف حزبي بائس يركض خلف أوهام البطولة التي لم يقو على دفع ضريبتها محاولا إقناع الجماهير بعظمة دوره الذي هو نفسه غير مقتنع به.
(6)
وكما أن الفعل الثوري قناعة مطلقة لا مجال فيه للإدعاء ولا تصلح معه أنصاف الحلول فللبطولة مسارات خاصة لا يقوى على وعورة مسالكها سوى ذو العزم من الثوار الشيء الذي يجعل اجتراحها ملامسا دوما لأفق الأسطورة ويمثل خرقاً مدهشاً لنواميس الحياة الواقعية يصيب الفرد العادي بالإبهار ويجبره على احترام وإجلال البطل بغض النظر عن اتفاق واختلاف النهج الفلسفي والرؤى الفكرية وقد درج قدماء اليونان على إطلاق وصف “أنصاف الآلهة” على الأبطال وأظنهم قد وفقوا في هذا.
(7)
فالأبطال يرتقون درجات باذخة في مدرج الإنسانية وتفصلهم عن عامة الناس برح يصعب على الفرد منالها والوصول لرحابها “الأسطومجدوية” وهم في العادة ذو سمات إنسانية رفيعة من أهمها السمو ونكران الذات والترفع عن الصغائر والعفة والزهد في المكسب والمغنم كما يمتازون بوعي سباق يحيط بالواقع ويتعداه ليهتك ستر المستقبل وبالدقة الشديدة في رسم الأهداف السامية والإصرار المستميت على الوصول إليها في شجاعة وإقدام مهما كانت العقبات والتحديات حيث لا يتوانى الثائر البطل في تقديم الروح في سبيل ذلك، هذه الصفات الاستثنائية هي التي أعانة الشهيد محمود محمد طه على التماسك أمام المقصلة ودفعته للثبات على الموقف بجسارة منحازا لقناعاته متشبثا بألق الشهادة والخاتمة الأسطورية أمام الموت.
(8)
وهي الصفات عينها التي جللت الشهيد عبد الخالق محجوب وصحبه الكرام من شهداء حركة 19 يوليو71م بالمجد والعظمة والفخار وهم يرتقون درج المقاصل أو يتلقوا زخات الرصاص بصدور عارية إلا من الإيمان الراسخ بعدالة القضية ونبل الهدف المنشود ومشهد الشهيد عبد الخالق محجوب وهو يهز حبل المشنقة هادئا هازئا من الموت بل ومداعبا جلاده بالقول في موقف تبلغ فيه قلوب الرجال الحناجر “يا زول حبلك ده متين أنا زول جسيم” قد بز لعمري كل أساطير القدماء والمحدثين فليس كل ثائر بطلاً ولكن كل بطل هو ثائر بالضرورة في أرقى درجات الثورية وإذا كان الثائر الحق في ندرة الحجر الكريم فالبطل الحق في ندرة لبن العصفور.
(9)
لقد عبرت مراسلة وكالة الأنباء البريطانية التي غطت جريمة إعدام قادة حركة 19 يوليو من العسكريين عن مدى قدرة “البطل” على خرق نواميس المنطق والمعتاد وهو يتسامى في معراج البطولة والخلود حين أخذت تصيح في انشداه وهي ترافق الخطوات الأخيرة للشهيد الرائد فاروق حمد الله وهو في طريقه للإعدام رميا بالرصاص ” انظروا لهذا الرجل الشجاع الذي يذهب للموت مطمئناً ثم لا يتوانى في إعادة ترتيب هندامه” وكان عليه الرحمة يعيد ربطة العنق إلى موقعها فوق صدره كل ما حملها الهواء وبعثرها وهو يسير نحو الموت ومجد الشهادة بثبات.
(10)
وأيقونة الحي العتيق “الديم” الشهيد الدكتور علي فضل لم يتخلف عن ركب العزة والبطولة والفخار وهو يقاوم وحده وحش الهوس الديني في بواكير توحشه الأولى ويزلزل الأرض تحت أقدام جلاديه ويهز سلطة الظلام النخرة بثباته الأسطوري وصبره على التعذيب ومقاومته الباسلة التي انتهت باستشهاده وهو مكبل في أغلاله منتصرا على جلاده وهو يرتقي ويتسامى في أبها وأروع ما تكون صور البطولة والفداء بينما جلاده اليوم معتوه ممسوس تطارده الهزيمة الأخلاقية والسياسية يسعى وسط رهطه حقيرا منبوذا يستجدي العطف على مرأى ومسمع من الناس. فسلامٌ عليك “يا علي” يا حبيب بسطاء الحي العتيق في عليائك الوقور وسلامٌ على رفاقك الأبرار.
** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.
تيسير حسن إدريس
[email][email protected][/email]