الحلم يفترش النعاس

*( مَنْ تفرَّد عن الناس نجا في الدُّنيا
والآخرة..).
– كتاب الزَّبوُر –
[
صباحاً ..
.. ومن نافذة في الطبقة الثالثة أضع يدي – باحتراس- على قلبي، واحصي النبضات وهي تنفرط إلي الشوارع .
أهبط سلم الجريدة، راكضاً وراء حباتها الفضية وهي تتدحرج على الإسفلت ككرات من الثالج سرعان ما تذوب في زحمة الأقدام المتراكضة وراء كريات الزمن المتدحرجة، تمر المركبات المسرعة فتدهس بعضها، هاهو دمها الدبق يسيل بين أصابعي وأنا الملم أشلاءها من بين أسنان العجلات، وسط ذهول المارة وزعيق الأبواق المتبرمة.
أمر على واجهات المخازن المضيئة، أتطلع إلي رفوف البضائع المكدسة، والأكتاف المتدافعة، فأصرخ مثلما صرخ سقراط حينما كان يسير متسكعاً أمام مخازن شوارع أثينا: – (شكراً أيتها الآلهة ، فما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها !).
أمر على المكتبات مشدوداً إلي عناوينها البراقة، أستل كتاباً عن البنيوية وآخر عن أمراض الشيخوخة، وأتأرجح بينهما كطفل، تاركاً لقميصي المفتوح على الغابات أن يخفق تحت المطر، تسمرني نظرات بائع الكتب الكهل، فأتوقف معتذراً من هذه اللعبة المشاكسة، أتركه يهمهم، وانسلخ من بياض عينيه إلي عسل عينيها خلف الواجهة، وهو يسيل بلمعانه الشهي على صخور البحر، وروايتي مركونة بين أكداس الكتب، امرأة من كحل وطفولة ونعناع ومراكب، تسألني عن الوقت، فأشير إلي عقارب قلبي العاطلة، تبتسم بمكر عسلي لذيذ، وتضبط ساعتها الأنيقة على الخريف.. وتغادر غير عابئة بنثار أحلامي خلف شرائط شعرها الطويل…
أمر على الغياب، كناي مبحوح، منفرطاً في الريح والأصدقاء، مجرجرأ معي الشوارع والحدائق والنوافير إلي عزلتي في أقصي البياض، هل كان ينبغي أن أتأفف على سنوات العمر والكتب والفاقة، فاضحك بمرارة وأنا أتطلع إلي صورتي متربعة على أحد أعمدة الجريدة، يمسح فيها النادل زجاج مكتبه اللماع وقد لوثه دبق أصابع الشحاذين…
أمر على الذكريات عابراً جسر ود الحداد إلي طفولتي في الحواشات وهي تخبيء ثيابها النحيلة بين أحراش السيسبان وأشجار النيم، وتستحم في الترعة مع الصبايا والأبقار والنايات، منكسراً على الغروب، وأنا أتدلي كمصل الدم إلي وريد أبي المسجى على سرير المستشفى، محاطاً بالنورس وبرود الطيبات.. ودموع أمي ..
.. .. .. .. .. ..
.. .. .. .. .. ..
صباحاً..
ومن نافذة في الطبقة الثالثة، تتنامي جلبة الأصدقاء حولي، أنتبه فجأة على صوت زميلتي وهي تضحك بشماته وغنج:
– لقد دخلوا عليك، منذ دقيقتين، أين كنت سارحاً ؟
دقيقتان ..؟! .. ياه .. لقد كان عمراً كاملاً !.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..