حفريات لغوية – استخدام “قام” لتوكيد الفعل وأصله في اللغة ..

كثيراً ما يرد في لغة الكلام في اللهجة السودانية العربية قولنا: “قام قعد” و”قام جاري” و”قام نطَّ”. و”عشان ما يقوم يغير رأيه” إلخ.. فهل لمثل هذه التعبيرات التي تستخدم الفعل “قام” ومشتقاته فعلاً مساعداً ومؤكداً للفعل المراد التعبير عنه، أصل في اللغة؟.
قبل الإجابة على هذا السؤال نقول إن مثل هذه التعبيرات ليست وقفاً على لغة الكلام بل نجدها أيضاً في لغة الكتابة المعاصرة مثل قولهم :” يقوم الرئيس بزيارة إلى الصين” و”يقوم الطالب بالإجابة على كل الأسئلة”. و”القيام بعمل اللازم”. و “كل من يقوم بالجلوس في الشارع يعاقب بموجب القانون”. إلخ.. فهل لكل ذلك أصل في اللغة أم يُعد من المتغيرات التي طرأت بفعل التطور الطبيعي للغة؟.
نقول إن استخدام “قام” فعلاً مساعداً لتوكيد الفعل المُسند، تعبير أصيل في اللغة العربية. فقد ورد هذا الأسلوب في الشعر العربي القديم وفي لغة القرآن الكريم أيضاً. قال النابغة الذبياني:
نُبِّئتُ حِصْناً وحَيّاً مِن بَني أَسَدٍ * قامُوا فقالُوا حِمانا غيرُ مَقْروبِ
قوله: “قاموا فقالوا” لا يقصد به فعل القيام وإنما يقصد به توكيد فعل القول.
وقال حسان بن ثابت:
علاما قامَ يَشْتُمُني لَئِيمٌ * كخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
القيام في قوله: قام يشتمني، توكيد نيته وعزمه على فعل الشتم.
ومن الشواهد على استعمال القرآن الكريم “قام” لتوكيد الفعل وتصويره، قوله تعالى:” وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا” ? سورة الكهف- الآية 14. قوله :”إذ قاموا فقالوا”- يفيد عزمهم على القول أي تأكيد فعل القول.
ومنها قوله تعالى :” وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً * قُلْ إِنّمَآ أَدْعُو رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً “. سورة الجن ? الآية 19 أي قام يدعو ربه، وذلك من غير أن يكون القيام هنا من لوازم الدعاء، إذ أن الفعل المراد الإخبار عنه هنا الدعاء وليس القيام. فالدعاء يكون قياماً وقعوداً وعلى الجنب كما ورد في الآيات المعنية.
وقد وردت هذه الشواهد الشعرية والقرآنية في معجم لسان العرب- يقول:” قال ابن بري رحمه الله: قد ترتجل العرب لفظة قام بين يدي الجمل فيصير كاللغو. ومعنى القِيام العَزْمُ… كقول النابغة الذبياني: نُبِّئتُ حِصْناً وحَيّاً مِن بَني أَسَدٍ قامُوا فقالُوا؛ حِمانا غيرُ مَقْروبِ أَي عَزَموا فقالوا؛ وكقول حسان بن ثابت: علاما قامَ يَشْتُمُني لَئِيمٌ، كخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ .. معناه علام يعزم على شتمي؛ ومنه قوله تعالى: وإنه لما قامَ عبدالله يدعوه؛ أي لما عزم. وقوله تعالى: إذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السموات والأرض؛ أي عزَموا فقالوا.”- انتهى.
وإذا كان صاحب لسان العرب يصف استخدام القيام هنا في معنى العزم على فعل الشيء، فأنا أقول إن القيام يستخدم هنا فعلاً مساعداً للتوكيد والمضي في فعل الشئء المقصود الإعراب عنه.
وقد أخذتْ المعاجم الحديثة بهذا الاستعمال. فقد جاء في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة: “.. ويقال: قام يفعل كذا: أخذ في عمله”.
وجاء بمعجم المنجد قوله:” قام يفعل الشي، أي أخذ وطفق يفعله”. قوله :”قام يفعل الشيء” لا تفهم إلا بمعنى استعمال قام فعلاً مساعداً لتوكيد فعل القيام بذلك الشيء. أي هنالك فعل أو أمر يحدث غير القيام المعلوم، واستعمال القيام جاء فقط لتوكيد فعل أو حدوث ذلك الشئ. كقولك: قام بالجلوس.
وعليه فإن قولنا في لغة الكلام: “قام قعد” فتعني ببساطة، قام بالقعود. فالغرض من “قام” هنا تصوير القعود وتوكيد العزم عليه.
أما قول ابن بري الذي أورده أعلاه صاحب لسان العرب: “قد ترتجل العرب لفظة قام بين يدي الجمل فيصير كاللغو”، فهو قول يؤكد أن هذا أسلوب عربي قديم. أما وصفه له باللغو فمردود عليه بوروده في الشعر العربي القديم وفي القرآن الكريم على النحو المُبيّن.
وإلى جانب “قام” هنالك الفعل “داير” نستعمله أيضا في كلامنا لتوكيد العزم على عمل الشيء. وداير في اللسان السوداني، هي مقلوب أريد العربية- انظر باب القلب والإبدال- وانظر كذلك مقالنا: (النحت في اللغة- هسع والآن). نقول: “داير اسوي لي شاي”. ونقول للشيء:”داير يقع”. وهذا التعبير يقابل القول: “يريد أن ينقض” في قوله تعالى:” فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ”. الكهف ? 77.
هذا، وأثناء كتابة هذه المقالة خطر بذهني التعبير الإنجليزي الشائع going to فتأملت فيه فوجدته شبيهاً باستخدامنا ” قام” فعلاً مساعداً ومؤكداً للفعل المخُبر عنه. يقولون مثلا It is going to rain أو I am going to sleep وهذا القول يقابل قولنا: “داير أنوم”.
ومثلما نستخدم “قام” فعلاً مساعداً لتوكيد العزم على فعل الشيء وتصوير الشروع فيه، فإننا نستعمل اسم الفاعل “قاعد” لفظاً مساعداً للدلالة على استمرارية ما نقوم به من فعل أو نأتي به كوصف مكمل لتصوير الفعل الذي يدور حوله الحديث المراد الإخبار عنه. ومنه قولنا : “أنا قاعد أكل” أو ” فلان قاعد يتكلم في التلفون”. والمعنى حالة كوني أكل. وحالة كونه يتحدث في التلفون.
وقاعد، تقابل هنا لفظ “عمّ” في اللهجات الشامية و”عمَّال” في اللهجة المصرية. في الشام يقولون: “عم بأكل” أي أنني أكل الآن أو حالة كوني أكل. و” عم تسمعنى؟” أي هل تسمعني الآن. وتقابل عندنا:” قاعد تسمعني؟”. وفي اللهجة المصرية يقولون: عمَّال بنده عليك”. وتقابل في كلامنا: قاعد أناديك. أو “أنادي فيك”.
وكنا قد عرضنا لذلك في مقالنا: (ليس هنالك ما يُسمى أخطاء في اللهجة السودانية) وذلك في معرض ردنا على الأستاذ فيصل محمد فضل المولى.(سودانايل 22/6/2011). وكان الأستاذ فيصل قد عدّ من الأخطاء المستحدثة في اللهجة السودانية قولنا:” الكتاب الأديتني ليهو” فهو يرى أن التعبير الصحيح وفق اللهجة السودانية الذي كان في الماضي هو:” الكتاب الأديتو لي”. وفات علينا في الرد على الأستاذ فيصل، القول إن عبارة:” اديتني ليهو” صحيحة بالقياس إلى العربية الأم وذلك لأنها تقابل قولنا في العربية: “أعطتيني إياه”: لأن الفعل أعطى من الأفعال التي تنصب مفعولين، وهما هنا، الضمير المتصل وموقعه من الإعراب مفعول به أول، و”الكتاب” مفعول به ثان. وقولنا “أديني ليهو”، يقابل قول الشاميين: “أعطني إياه”.
وتأتي “أدى” في كلامنا في معنى أعطى. فهي من معنى قوله تعالى:” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا”. أي أن تعطوا. أما قولهم: “أدى القسم” فهي من الأداء أي إنجاز الشيء أو الأمر.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. تري لماذا لم تكتب عن مدينتك الجميله الرهد ابودكنه فوقع حوافر قلمك الجميل سترجعنا الي حيث كنا وكان الزمان هناك له طعم ولون ورائحه. لك مني التحيه عجب الفيّا

  2. الاستاذ عجب الفية “قاعد” منذ فترة يؤدي خدمة جليلة للثقافة السودانية من خلال حفرياته في لهجاتها العربية .ولاشك انه “يقوم” بحفر منتج ومدهش فله الشكر. اعتقد ان استخدام مفردة قام وتنويعاتها قديمة وتعود الى زمن “حفر البحر” اللغوي. ربما الى ايام كانت كل الافعال البشرية التي تفعل هي افعال حركية تستلزم تحرك الجسم. واول هذه الافعال هو ” القيام” . فكي تفعل اي شىء لابد لك من ان ” تقوم” له أولا كي تفعله ثانيا . لذلك فان فلانا “قام ” حفر . ثم قام “صلى”. ثم انتقلت من باب التوسع اللغوى الى ” قام” ضحك و” قام” قال. بل ورحلت الامور الى مجال الافعال الذهنيةالمحضة التي لاتستدعي حركة بدنية فقلنا ” قام” فكر . وهكذا “قام” بنا قطر اللغة.والله اعلم.

  3. الأستاذ عبد المنعم ، شكرا لأنك تتحفنا دائما بمقالاتك المفيدة والرائعة ، لكن قول صاحب لسان العرب بأن ذلك من اللغو غير مردود كما توهمت لأنه عنى باللغو هنا أنه حشو وزيادة بمعنى أنه لا يضيف للمعنى ولا يقال لما يرد في القرآن حشو أو زيادة تأدبامع القرآن وإنما يعني التوكيد وأيضا قد يكون مراد صاحب اللسان انه ” لغة ” في كلامهم لأن اللغو مهناه اللغة أيضا وقد اتعرض بمزيد من التفصيل في تعليق آخر بمشيئة الله ، ومنكم نستفيد مع تقديري .

  4. شكرا للأستاذ على هذا المقال الجميل. لكن لوترجمت جمله””أعطتيني إياه” الى لغة مثل الإنجليزية فستكون “you gave me to it” فإذا قد يكون التعبير أدق لو قيل “أعطيته لى” والله أعلم.

  5. + هذا المقال يستدعي مقالاً آخر .. أكثر مما تتحمله مساحة التعليق.. !!

    + للأستاذ الناقد والكاتب عجب الفيا حس لغوي عالي.. ولا أدري لماذا لم يتخصص في اللغة بدلا عن القانون..(مع إيماننا بضرورة تكامل المعرفة).. ومن تجلياته مثل هذه الاهتمامات والابداعات.
    + للعامية السودانية واللهجات العربية بشكل أعم, خصائصها الصرفية والنحوية والدلالية والأسلوبية ولها جمالياتها العديدة… مما يستدعى كتابات تضيف لانجاز عون الشريف قاسم الذي اتخذ شكل القاموس فقط (على أهميته الكبيرة) !!

    + أريد أن أشير الى مشكلة منهجية ( methodological) في كلام كثير من الناس والباحثين , وهي أنهم يردون اللهجات إلى الفصحى .. ( كما تشير إلى ذلك كلمة.. “أصل في اللغة” ) التي وردت في عنوان المقال. ليس بالضرورة أن يكون الأصل هو الفصحى لأن الفصحى هي التي انبثقت غالباً عن اللهجات ( هي اللهجة المركزية , في الواقع.. وهذا هو سبب نزول القرآن بها.. وكونها أداة التدوين في العربية قديما وحديثا) .. الفصحى هي لهجة مكة (قريش) التي أخذت من لهجات العرب قاطبة.. بسبب الأهمية السياسية والاقتصادية والدينية المركزية لمكة .. حتى قبل الإسلام لوجود الكعبة بها.

    + اللهجة المركزية ( الفصحى ).. عادة ما تكون تجميعا لباقي اللهجات مثل الانجليزية الفصيحة ( Standard English) التي أخذت من لهجات شمال ووسط وجنوب انجلترا وتأثرت بجامعتى أكسفورد وكيمبردج حيث كان الطلاب يأتون للدراسة فيهما من مناطق بريطانيا المختلفة.. بالإضافة لأهمية لندن السياسية والتجارية بدلا عن يورك ((York في شمال انجلترا والتي كانت عاصمة انجلترا في السابق قبل لندن (ربما هذا هو سبب تسمية نيويورك الأمريكية حيث كان الوافدون الجدد إلى أمريكا يسمون المناطق على غرار مناطقهم القديمة.. ولا نجد نيولندن)..

    + مثلما للهجة السودانية ( توجد لهجات عربية سودانية متعددة بما في ذلك عربي جوبا) خصائص وجماليات عديدة, كذلك توجد جماليات أسلوبية عديدة في اللهجات العربية الأخرى .. ويعجبني هنا بشكل خاص : استخدام صيغة الفعل المضارع للحكى في اللهجة السعودية أي ما يسمى بالمضارع السردي ( narrative present).. وهي صيغة تجعل الحكي حياً وماتعاً أكثر من صيغة الفعل الماضي.. وبعض الكتاب يستخدم هذه الصيغة في كتابة الروايات والقصص القصيرة !!!

    + أعمل حاليا على ورقة علمية عن ظاهرة لغوية نادرة تسمى بال ( Code-crossing) تتجلى في لغة الشماشة في السودان .. من المتوقع أقدم عرضا لها في مؤتمر علمي في لندن ينعقد قريبا !!

    كل الشكر, للأستاذ الفيا

    عبد الماجد عبد الرحمن
    قسم اللغة الانجليزية
    جامعة المجمعة-السعودية
    [email protected]

  6. دائما ما تخرج بنا كتاباتك من حفر السياسة السودانية وطين ووحل الوضع الذي نحن فيه
    الى حديقة اللغـة بكل ما فيها من أشجــار وثمار وفاكهة وأبا…..
    والله انك لفاكهة الراكوبة الحــلوة جزاك الله عنا ألف خير وننتظر منك المزيد
    تســلم البطن الجابتك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..