عِلَلُ النّفُوسِ وتخلف السودان.. قناة النيلين نموذجاً؟!

ألحَّ كثير من الأصدقاء مطالبين بضرورة الكتابة عن تجربتي في العمل بالسودان وكيف أني واخوتي في الله، “ومنهم الورعان”، د. الماحي عبد الدائم ممثل شركة أي سيس الكويتية في السودان والأستاذ محمد حاتم سليمان مدير عام الهيئة العامة للتلفزيون السوداني أصبحنا حرامية ما بين ليلة وضحاها؟!.
بالطبع، أنا لا أملك معدة بها أربع حجرات للهضم كما هو حال الحيوانات المجترة، ولكن اليوم تتملكني رغبة عارمة في الكتابة والاجترار (في حالة حيوانية) بعد أن وصلت أمس الأول للعاصمة البريطانية لندن لمقابلة أسرتي وابنائي الذين تركتهم “بكل أسف” للبرد، وأذا بي أشعر براحة كبيرة من حالة الضيق والغثيان تلك التي لازمتني خلال فترة عملي الوجيزة في قناة النيلين الوليدة، والتي لا تعدو كونها ثمانية أسابيع فقط قياسا بتجربة العمل خارج السودان التي أمتدت لأكثر من عقدين من الزمان، لم أصاب فيها بهذا التقيؤ اللعين؟!.
الانسان بطبعه يؤثر ويتأثر بما حوله، لذلك يبدو أن أمعائي قد استفاقت من حالة الهيجان الذي سبّبه لي مكر “البعض” بالسودان وبكل أسف أولئك الذين لم أكن أضمر لهم في نفسي أي عداء شخصي؟!.
حقيقة، لم يكن أمامي سوى العودة الى لندن، وعلى ذكر لندن أقول بوحي كلمات الشاعر، الصديق، الأب الحبيب، الكابتن، الزميل الصحفي، (وأنا ألقبه بالكشكول) الاستاذ تاج السر كنه الذي قال عن عاصمة الضباب:
مدينتي يا سادتي هي غابة عصرية
أشجارها البيوت
ثمارها الخطاة والخطايا
وحزمة الأحزان في دروبها مطايا
برعت في الخَنا من كل صمت
وفي مدينتي في كل بيت كهف
تسكنه الأقدار
تصول دون كف
تبيد دون رحمة
مدينتي أعيش فيها راغما مواكبا فيلاق الضلال
فيلاقاً لا تعرف النقاء والجمال
حديثها غريب
لأنها تقول ما لغيرها يقال
***
بكل تأكيد لندن ليست المكان المرغوب بالنسبة لنا كسودانيين بالرغم من توفر كل سبل العيش الكريم، ولكن؟!
***
المكر قال عنه الله سبحانه وتعالى في سورة فاطر: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)، وقال عنه رسولنا الكريم محمد (ص): (إياك ومكر السيئ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله).
ولغوياً عرفه علماء اللغة بأنه الخداع وصرف الغير عما يقصده الماكر بحيلة، بينما يرى المتفقهين أنه نوعان: نوع حميد يتحرى صاحبه الفعل الجميل، وأخر مذموم وهو سلوك غالب عند من يتحرى إلصاق الفعل القبيح بالناس من دون وجه حق، غير أني ومن واقع تجربتي المتواضعة في العمل بقناة النيلين الرياضية أستطيع القول إن هذا النوع يبدو منتشراً بشدة في بلادنا بكل أسف، لا سيما وأن فئات من بيننا ظلت تعمل على الدوام لتغليب مصالحها الخاصة على مصالح شعبها عبر استخدام هذا السلاح غير المشروع، ليس في مجال الرياضة والاعلام فحسب، وانما في السياسة والاقتصاد والعلوم والطب والمجالات كافة. هذه الفئات بمختلف تخصصاتها تبدع أيما إبداع في سعيها لتحقيق مبتغاها، ولا يهمها سمعة وكرامة وشرف الأخرين ولا حتى مصالح الوطن الكبير وتطوره.
بالطبع لا يجوز التعميم، فكل حالة تحكمها خلفياتها الخاصة ولكن الفترة التي قضيتها في قناة النيلين الرياضية وضعت بين يديي نماذج كثيرة وقصص وروايات (حزينة) لهذه البطانة الفاسدة التي قلل من وقع صدماتها في نفسي بعض الخيرين الذين أَسْوًا جراحاتي وجراحات زملائي من الشباب العاملين بالنيلين فأزالوا عني وعنهم القرح والضَّيْم اللعين.
اليوم، وأنا أجتر ما صاحب هذه الفترة من مرارات يبدو حالي متوافقاً مع خاصية الاجترار وأنا ألوك مرارة التجربة.
نعم، هأنذا أجتر ولكن ليس على طريقة الحيوانات طعاماً تختزنه في امعائها في لحظة تنافس على هدي نهج ضعاف النفوس وسعيهم للكسب الرخيص على حساب الأخرين، وانما الذي أرمي له يبدأ بمخافة الله ولا ينتهي بمحبة والدتي التي لم تسلم هي الأخرى وأمهاتنا جميعاً والأهل وأبناء الحارة والحي والمدينة الذين جرحوا ولم يسلموا من تلك الاساءات البالغة، هذا بعيدا عن الطعن في النزاهة الشخصية وحب الوطن الذي دفعنا جميعاً للخوض في تجربة قصدنا من خلالها تحثث طريق الثبات والتجويد وتوطين الخبرات السودانية الشابة المهاجرة (كما هو الحال مع تجربة المحلل الاحصائي صديقي الشاب أيمن يماني) الذي يسعى وزملائه من الشباب في قناة النيلين لمسح إخفاقات بعض من الماكرين من “المكنكشين” وضعاف النفوس. وأحسب أن تجربة أيمن وزملائه شهد بها كل الرياضيين في السودان؟!.
بالطبع حالة المكر التي صاحبت تجربتنا ليست جديدة على الوسط الصحفي ومكايداته ولكنها من دون شك ستدون من بين الحالات الأكثر سواداً في تاريخ العمل الاعلامي السوداني.
كثيرا ما أجد نفسي في محكات تمليها منعرجات المهنة ودهاليزها مع زملاء خارج حدود الوطن بينهم عرب وعجم، غير أن الذي عايشته في قناة النيلين كان قمة التعرج والالتواء ولم أرى له مثيلاً في بلاد الكفر ولا في حيل غرمائنا من الصحفيين العرب والأجانب الذين زاملناهم لعشرات السنين وكانت تثور ثائرتهم ضددنا نصرةً للشخصية ليس بدواعي التنافس المهني الذي تفوقنا فيه عليهم وإنما سعياً لإثبات الذات في العمل بخلفيات عنصرية بغيضة مردها لعنصر للون؟!.
الذي أستطيع قوله اليوم، هو أننا في السودان كنا نتبوأ القيادة والريادة في كل المجالات قياساً مع نظرائنا في دول الجوار العربي والمحيط الافريقي، ولكننا اليوم تذيلنا القائمة بامتياز في كل المجالات والسبب في تقديري ليس فقراً في الموارد ولا في القدارات العلمية ولا التأهيل الأكاديمي فحسب وانما السر يكمن في عِلَلُ النّفُوسِ التي قال عنها البحتري:
عِلَلُ النُفوسِ قَريبَةٌ أَوطانُها * وَصَلَت فَمَلَّ وِصالَها جيرانُها
نَفسي فِداؤُكِ أَيُّها النَفسُ الَّتي * لَو خُلِّيَت أَودى بِها خُلّانُها
قَد زِدتَ في مَرَضِ القُلوبِ فَبَرَّحَت * بُرَحاؤُها وَتَضاعَفَت أَشجانُها
ما عِلَّةٌ كَتَمَ التَجَمُّلُ سِرَّها * لَو لَم يُخَبِّرنا بِها إِعلانُها
أُنبِئتُها بِالغَيبِ ثُمَّ رَأَيتُها * تَدنو مَسافَتُها وَيَصغُرُ شانُها
***

مع ذلك، يبقى السودان كما قال شاعرنا الكبير سيف الدين الدسوقي:
احب مكان، وطنى السودان
أعز مكان، عندى السودان
***
أسأل الله أن يزيل عنا هذه العلة حتى تتبوأ بلادنا مرة أخرى مكانة مرموقة بين الدول.

صحيفة اليوم التالي العدد الثاني – 15 أبريل 2013

خالد الاعيسر
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. محن سودانية !! بكل برود قال: (“ومنهم الورعان”، د. الماحي عبد الدائم ممثل شركة أي سيس الكويتية في السودان والأستاذ محمد حاتم سليمان مدير عام الهيئة العامة للتلفزيون السوداني أصبحنا حرامية ما بين ليلة وضحاها؟!).

    محمد حاتم سليمان ضبط متلبس وبالاثبات خليك من ورعوا
    انت ده لحدي دسه ما جاوبت على تلك التهم المانعك شنوا؟؟

    كسره ثابته على قول جبره:
    موضوع الالوف من الدولارات القبضته القناه اياه عن طريق سمسار تركيا خبره شنو إتبلعت؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..