اختبار الذكاء في السودان

اختبار الذكاء في السودان
Intelligence Testing in the Sudan
جي . سي. اسكوت G.C. Scott
تلخيص وترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لجزء من مقال طويل للبريطاني جورج كثبرت اسكوت (1898 ? 1987م)، والذي كان أحد أوائل المؤسسين لمعهد بخت الرضا عام 1934م، وألف فيه كتابا مدرسيا للأطفال اِتَّبَعَ فيه الطريقة التحليلية في تعلم اللغة العربية ، انتقده فيه بروفيسور عبد الله الطيب وآخرون.
نشرت هذه الورقة (وهي في الأصل محاضرة ألقيت أمام الجمعية الفلسفية السودانية في 24 فبراير من عام 1948م) في العدد التاسع والعشرين من مجلة “السودان في مدونات ومذكرات”، والصادر في عام 1948م. ثم أعاد المؤلف نشرها في العدد العشرين من المجلة البريطانية لسيكولوجية التعليم British Journal of Educational Psychology الصادر عام 1950، وكان يعمل حينها نائبا لمدير كلية غردون التذكارية بالخرطوم. واعتمدنا هنا على المقال المنشور في المجلة السودانية.
ولاختبار الذكاء تاريخ قديم بدأ مع عالم النفس الفرنسي الفرد بينيه Alfred Binet (1857 ? 1911م)، والذي طلبت منه الحكومة الفرنسية عمل اختبار للتلاميذ بغرض تحديد من يحتاجون منهم لمساعدة خاصة في التعلم. ورغم الأهمية البالغة لهذا الاختبار في مجالات التربية والتعليم، إلا أنه قد أستغل لاحقا عند البعض لأغراض عنصرية للتمييز بين الأعراق المختلفة.
وهنالك بالطبع الكثير مما طرأ على مفهوم “الذكاء” واختباراته بعد نشر اسكوت لورقته هذه ، إلا أنه من المؤكد أن للورقة قيمة تاريخية بحسبانها أول ورقة عن اختبار ذكاء أطفال السودان. ومن المباحث الجديدة في هذا المجال مقال علمي للدكتور عمر هارون وآخرين عن ازدياد نسبة الذكاء الأدائي (Performance IQ) وانخفاض الذكاء اللفظي (Verbal IQ) في السودان بين عامي 1987 و2007م تم نشره في العدد الواحد والأربعين من مجلة Journal of Biosocial Science عام 2009م.
المترجم
******** ************ *********** ************
عندما يسألني أحد من الناس عما أفعله ، وأجيبه أني “أحاول قياس ذكاء الأطفال السودانيين”، عادة ما يرد علي بسؤال مفاده: “وما هو الذكاء؟”. وأجيب على ذلك السؤال بالقول أن لا أحد يعرف على وجه الدقة الإجابة على ذلك السؤال . وينصرف عني السائل وهو يهز رأسه ، وفي بعض الحالات يتحسسه! آمل هنا أن أقنعكم أن مثل ذلك السلوك سلوك غير منصف.
لقد كان بالإمكان قياس الكهرباء قبل أن يستيقن علماء الفيزياء من إدراك كنهها على وجه الدقة ، وربما كان هذا القول يصدق على الذكاء أيضا. غير أن المرء مضطر ليقدم نوعا من التعريف للذكاء (عندما يلح عليه أحدهم بطلب ذلك). وقد يأتي التعريف كما يلي: “الذكاء هو القدرة على تكوين أفكار واضحة ، والتمكن من فهم العلاقات بين تلك الأفكار ، ومعالجتها بمهارة وبراعة”. غير أن هذا التعريف صادق ومفيد إلى حد لا يفوق قولك إن الكهرباء هي “المادة التي تطلق الشرر، وتصدم من يمسها”. وبالطبع لا يعتمد اختبار الذكاء على شيء من ذلك . وعلى كل حال ، لا يبدأ العلم بوضع التعريفات للظواهر ، بل يبدأ بملاحظتها وقياسها . ولهذا فإن أفضل مقاربة لما يسميه علماء النفس “الذكاء” هي عن طريق تكوين فكرة عن ملاحظته وقياسه.
تقدم للناس (في اختبار الذكاء) بعض الأسئلة والألغاز (puzzles) اللفظية وغير اللفظية المتشابهة ولكنها شديدة التنوع. وتشمل تلك الأسئلة مثلا سؤال عن اختيار كلمة واحدة من بين خمس كلمات تختلف عن بقية الكلمات (مثل حب، كره، حسد، حكمة، وشفقة) أو المتماثلات (analogies) مثل: دائما بالنسبة إلى أحيانا، هي مثل الكل بالنسبة إلى …..، أو المتواليات (progressions) مثل ترتيب هذه الكلمات ترتيبا منطقيا: جملة ، صفحة ، كتاب ، كلمة ، فقرة. أو تعليمات (instructions) مثل: ارسم دائرة تتداخل جزئيا مع مربع ، أو ارسم مثلثا بكامله في داخل مربع، يكون جزئيا داخل دائرة.
وتقدم الألغاز لآلاف الناس ، ثم تحلل النتائج إحصائيا. وثبت أن القدرة على الاستجابة لتلك الأسئلة بصورة صحيحة تزداد بعد سن الثانية (وربما بعد الميلاد مباشرة) حتى سن الـ 15 أو 16، حين تتوقف عن الزيادة. ويوجد خلاف بين العلماء حول تلك القدرة: أتظل عند الفرد حتى سن الخرف أو الموت ، أم تتناقص مرة أخرى عند منتصف العمر ؟ ووجد أيضا أن قدرة التلاميذ على حل تلك الألغاز تتوافق وتتسق مع مستواهم الدراسي . وبعد إجراء اختبار الذكاء عند الطفل يتم تقدير نسبة نجاحه في الاختبار مع الأخذ في الاعتبار سنه. فإن تحصل مثلا على معدل يماثل متوسط ما يتحصل عليه عادة الأطفال في سن الثالثة عشر، يقال إن ذلك الطفل عمره العقلي هو ثلاثة عشر، مهما يكن عمره الزمني (الكرونولوجى). وبعد ذلك يقسم عمره العقلي على عمره الزمني ويعرف حاصل تلك القسمة مضروبا في 100 بـ “معامل (نسبة) الذكاء IQ”. وخلافا للزيادة التي تحدث في العمر العقلي مع تقدم السن (من لحظة الميلاد إلى سن 15 ? 16 سنة) فإن ذلك المعامل يظل ثابتا. ولعل هذا يؤيد النظرية التي تذهب إلى أن الذكاء (كما يعرفه علماء النفس) يورث ولا يكتسب.
وينبغي التأكيد على أن ” الذكاء” المقصود في كل ما ذكرنا هو الظواهر التي يمكن ملاحظتها وقياسها في ذلك الاختبار المسمى “اختبار الذكاء”. وبحسب خبرتي، فإن لذلك الاختبار أخطاء وشراك محتملة يصعب التخلص منها. غير أن ذلك الاختبار قد تم تجريبه على مدى سنوات طويلة زادت عن الأربعين عاما في أوروبا وأمريكا ، وأصاب نجاحا مؤكدا ، وكانت نتائجه متوافقة ومنسجمة دوما ، مما يجعل من الصعب إنكار جدواه وصحته وسلامته. غير أننا يجب أن نتذكر أن اختبارات الذكاء التي تصلح لبلد ما قد لا تصلح لبلد آخر. فغرض الاختبار الأساس هو قياس القدرة العقلية / الذهنية. بيد أن تلك القدرة لا يمكن أن يعبر عنها إلا من منظور بيئة الشخص الذي يتم اختباره. ومعلوم أن هذه البيئة تختلف باختلاف البلدان، ولا يقف ذلك الاختلاف عند حد اختلاف اللغة (وهنالك توافق وترابط correlation عال بين الذكاء وبين الطلاقة اللفظية)، بل يتعداه إلى محتوى ومدى التجربة ، والفرص التي توفرها البيئة لتحقيق القوة الذهنية / العقلية المحتملة ، والتعبير عنها.
ولما أسندت لي ، أول مرة ، مهمة اختبار ذكاء الطلاب السودانيين ، لم يكن بين يدي أي مقياس جاهز للاستخدام ، رغم أني كنت أحسب – خطأ- أن بين يدي بالفعل مثل ذلك المقياس! ولا أعد نفسي خبيرا الآن ، ولكن حين شرعت فيما وكل لي كنت أقل خبرة! ولعل إسناد تلك المهمة العسيرة لي كان بسبب وحيد ، وهو أن عميد كلية غردون التذكارية ومدير مصلحة المعارف لم يكونا على علم بمسألة اختبار الذكاء عند الأطفال بأكثر مما كان في جعبتي حينها.
وبدأت اختبار الأطفال بتقديم أسئلة شفاهية لهم ، ليس توفيرا للوقت الذي يستغرقه طبع الأوراق فحسب ، بل لأن المشافهة وسيلة أكثر أمانا من الكتابة عند الأطفال ، خاصة أولئك الذين يقطنون في بيئات أمية ، والذين كانوا قد بدأوا في تعلم الكتابة بالعربية منذ عامين فقط ، ومعظمهم من الناطقين بغيرها.
ثم عثرت على نسخة من اختبار ذكاء قديم للعالم البريطاني الرائد بي. بي. بالارد ، أعده باللغة العربية الدارجة المصرية إسماعيل بك القباني . وحسبت أن ذلك الاختبار العربي سيكون ? بقليل من التعديل لبعض الكلمات لما هو مستخدم في السودان – صالحا للاستخدام في البلاد . وقمت بالفعل بتغيير بعض كلماته إلى اللهجة للسودانية ، وعدلت في عشرين عنصرا من أصل أربعة وخمسين عنصرا في الاختبار حتى تناسب البيئة السودانية . وقمت بحفظ كل تلك الأسئلة عن ظهر قلب ، ومضيت ? في جهل وتفاؤل ساذج ? أحاول أن اختبرها معياريا في نحو 900 طفل بين الصف الثالث بالمرحلة الأولية والصف الرابع بالمرحلة الوسطى . وكان هدفي بالطبع أن استخرج العمر العقلي / الذهني لهؤلاء التلاميذ ومعدل ذكائهم. غير أني صدمت بنتيجة لم أتوقعها، إذ أنني وجدت عند طلاب المدرسة الوسطى توافقا ملحوظا بين العمر الزمني وبين معدل الذكاء. غير أن الاختلاف في متوسط معدل الذكاء في كل عام من العمر الزمني كان ضئيلا وغير ذى قيمة إحصائيا. وكانت النتيجة عند تلاميذ المدراس الأولية أسوأ ، إذ لم يكن هنالك أي توافق بين العمر (الزمني) ومعدل الذكاء.
وبناء على ما حصلت عليه من نتائج، حسبت أن هنالك خطأ ما في الاختبار الذي أعددته، وأن ذكاء التلاميذ السودانيين لا يزداد مع تقدم العمر كما هو حادث عند الطلاب الأوربيين والأمريكيين . لذا قمت بعمل ما كان على أن أفعله منذ البداية ، فشرعت في عمل تحليل إحصائي لاستجابات التلاميذ لكل عنصر من عناصر الاختبار على حده. وتوصلت إلى أن 30 من كل العناصر (وعددها 64) لا قيمة لها البتة ، إما بسبب أن كل التلاميذ أجابوا عليها إجابة صحيحة ، أو أن كلهم أجابوا إجابة خاطئة ، أو بسبب غياب أي توافق بين الإجابات الصحيحة وبين العمر، أو المقدرة على استيعاب الدروس. واكتشفت أيضا أن 14 من عناصر الاختبار قليلة الفائدة لأسباب مشابهة.
وبذا لم يبق لي غير عشرين من جملة 64 عنصرا يمكن اعتبارها مَصْدُوْقة، وتمكنت أيضا من معرفة سبب عدم وجود توافق بين بين العمر ومعدل الذكاء عند طلابي في ذلك الاختبار. ويجب على أن أذكر أن نقدي لتلك النسخة من اختبار الذكاء ينصب على ما قمت بتعديله في ذلك الاختبار فحسب ، وليس على الاختبار الأصلي الذي صممه البريطاني بي. بي. بالارد ، وعدله المصري إسماعيل القباني . لقد قمت بتعديل ذلك الاختبار وقمت بتجريبه على تلاميذ يعيشون في بيئة مختلفة عن بيئة من صمم لهم ذلك الاختبار.
وبعد تلك التجربة تعلمت شيئا قليلا ، فحرصت على تحسين محتوى وعرض اختباري . وقمت بإعداد 327 عنصرا ، وجربتها على مئة طفل في الصف الثالث والرابع بالمدرسة الأولية ، واستبعدت كل عنصر كانت نسبة النجاح فيه لا تتعدى 20% ، أو أكثر من 80% عند طلاب الصف الرابع ، أو تلك التي لم تكن فيها نتيجة طلاب الصف الرابع مختلفة عن نتيجة طلاب الفصل الثالث (والذين كانوا ، على وجه العموم ، يصغرونهم بعام كامل). وأدت نتيجة تلك التجربة الأولية إلى إنقاص عدد العناصر في الاختبار إلى 162.
وقمت مجددا بتجربة هذه الـ 162 عنصرا في اختبار جديد ، كان هذه المرة على 224 تلميذا في الصفين الثالث والرابع بالمدارس الأولية. وبالإضافة للشرطين اللذين ذكرتهما آنفا، طبقت ما يعرف بـ “معيار الاتساق”، وهو معيار يستبعد به أي عنصر يكون فيه التوافق ضعيفا بين الاتجاه والميل (tendency) نحو الإجابة إِجابة صحيحة ، وبين الاتجاه والميل نحو تحقيق معدل كلي عال في كل عناصر الاختبار. وأدى هذا الاستبعاد لتقليص عدد عناصر الاختبار إلى 77. ثم قمت بتجريب هذا الاختبار على 160 من طلاب المدارس الوسطى. وجاءت النتيجة مؤكدة ? كما هو متوقع – لعدم وجود أي صعوبة عند هؤلاء الطلاب الأذكياء والأكبر سنا. وقمت بتعديل تلك العناصر مرات أخرى إلى أن خلصت إلى اختبار مكون من 88 عنصرا، من أصل 392.
وبذلت بعض الجهد في مسألة ترجيح /أوزان weighting عناصر الاختبار (أي بنسب الأنواع المختلفة من عناصر الاختبار) ، وأبقيت على 11 نوعا من أصل 22.
هذا ما كان من أمر المحتوى ، أما من ناحية العرض، فقد قمت بعمل تغييرات تجريبية عديدة فيه. فقد لاحظت أن التلاميذ كثيرا ما كانوا يخطئون في بعض الأسئلة، ليس بسبب عدم قدرتهم على الإجابة عليها، بل بسبب عدم وضوح المراد منهم عمله. فقمت بتحضير عدد من الأسئلة للتلاميذ لاستخدامها لتدريبهم على معرفة المراد منهم عمله في كل نوع من أنواع عناصر الإختبار المتنوعة. ولاحظت أيضا أن بعض الطلاب يخطئون في الإجابة على بعض الأسئلة ، ليس لنقص في ذكائهم ، بل لأن انتباههم attention ينصرف في بعض الأحيان لشيء أو لأشياء أخرى. فمنهم من يتطلع عبر النافذة ، أو يفكر في طعام العشاء ، أو يحدق في دهشة في ركبتي وشعرهما الأبيض (ربما لم تكن الحالة التي تعرف الآن بـ “اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط ?Attention deficit hyperactivity disorder معلومة لدى الكاتب في تلك السنوات. المترجم). لذا قررت أن أجعل ذلك الاختبار أشبه بلعبة مثيرة للانتباه ، وصرت أرتدي سروالا (بنطالا) طويلا وتخليت عن لبس السروال القصير في أيام الاختبار. ولاحظت كذلك أن التلاميذ كانوا في حالة خوف عاطفي ورهبة شديدة من الاختبار، فعمدت أن أبدأ قبل الدخول في الاختبار، في عملية إحماء warming – up تتخللها مداعبات وثرثرة في أمور متنوعة لتحسين مزاج التلاميذ قبل بدء الاختبار. ويبدو أن تلك الطريقة قد أتت أكلها، بدليل أن كثيرا من التلاميذ كانوا يلاحقونني في الطريق قائلين : “يا أفندي … تعال واختبرنا مرة أخرى!”
ولما بلغت مرحلة متقدمة في إعداد الاختبار بعد كثير من التجارب الأولية، قمت بمعايرته عن طريق تجريبه في 620 من الأطفال الذين تم اختيارهم بعناية فائقة ، رغم أني بالطبع لم أبلغ الدقة الكاملة في اختيار العينة كما يحدث في أوربا وأمريكا. وكان من ضمن معاييري في اختيار العينة أن يكون اختيارا عادلا يمثل فيه كل أطفال السودان قاطبة . غير أن المعضلة كانت في عدم وجود عدد كاف من الاطفال الذين يرتادون المدارس ، وبسبب أن نصف هؤلاء لم يكونوا مؤهلين لإدراجهم في التجربة بسبب عدم قدرتنا على التأكد من أعمارهم. ولم نقم في تجاربنا (خلافا لما يقوم به الباحثون في أوروبا وأمريكا) بأي معاملات إحصائية لتحديد وضع الأطفال من حيث الغنى والفقر، أو العيش في المدن أو البوادي، أو مهنة الوالد. وكان من العسير الحصول على عينة من الطلاب تمثل بصدق كل تلاميذ المدارس الأولية في كل مناطق السودان، غير أن ما لا يدرك كله لا يترك جله. وتأملت في فرضية أن التلاميذ الذين بحوزتهم شهادات ميلاد عادة ما يكونون أكثر ذكاء من الذين لا يملكون ما يثبت تاريخ ميلادهم، وتسامحت قليلا في أمر درجات المنافسة المختلفة للدخول للمدارس المختلفة.
وكانت النتائج الإحصائية للاختبار الثاني أفضل قليلا من الأولى من حيث أنها وجدت بعض التوافق بين الذكاء وتقدم العمر، ولكنها لم تكن مجودة بما يكفي لتتماشى مع النظرية. فقد كانت نتائجي منحرفة skewed عن الصواب وليست كما هي في أوروبا وأمريكا، حيث تأتى النتائج موزعة بطريقة معتادة / نظامية / سوية normally distributed(مثل رسم الجرس / الناقوس المقلوب) فقد أثبتت نتائجي أن نسبة الطلاب الأشد ذكاء الذين أحرزوا درجات أعلى من المتوسط كانت تفوق نسبة الطلاب الأقل ذكاء الذين أحرزوا درجات أقل من المتوسط. ولم أجد تفسيرا لتلك المفارقة غير أن ألقي باللوم على وسائل قياسي وليس على طبيعة ذكاء الطلاب السودانيين. وربما كان السبب هو عدم وضعي لعدد كاف من الأسئلة السهلة نسبيا للتلاميذ الأقل ذكاء في المدارس الأولية. فالتلاميد الأكبر سنا والأكثر ذكاء في تلك المدارس لديهم المجال لإظهار ذكائهم، وهو ما يفتقده التلاميذ من متوسطي ومنخفضي الذكاء. وعلى العكس من ذلك، كان في اختبار ذكاء طلاب المدارس الوسطى عدد غير كاف من العناصر الصعبة نسبيا، ولذا لم يجد الطلاب الأكثر ذكاء مجالا لإظهار ذكائهم.
ومن النتائج التي تحصلت عليها احصائيا أنه إذا أخذنا متوسط معدل الذكاء لكل الأطفال في ذات المستوى في كل المدارس، سنجدها تساوي 100 في كل مستوى في المدارس الأولية، بينما كانت تساوي 114 في المدارس الوسطى.
ومن الملفت للنظر أني لم أجد اختلافا بين الجنسين في معدل الذكاء. ووجدت أيضا أن طلاب المدارس التي تشتد فيها المنافسة على الدخول كانوا يحصلون على درجات أعلى في معدلات الذكاء.
وللتأكد من صحة وموثوقية نتائجي طلبت من بعض مدرسي التلاميذ الذين اختبرت ذكاءهم أن يقدروا معدلات كل تلميذ من تلاميذهم . ووجدت ? للغرابة ? أن نتائجي لا تتوافق كثيرا مع تقديرات أولئك الأساتذة . وخلصت إلى أن الخطأ قد يكون في نتائجي ، أو في متوسط تقديرات أولئك الأساتذة لمعدلات ذكاء طلابهم ، أو في كليهما. ويجب القول إن تقديرات الأساتذة لمعدلات ذكاء تلاميذهم كانت متباينة جدا. وهذا مما دفعني لعدم الوثوق بنتائجي ، حتى وإن كانت قد اتفقت مع تقديرات أولئك الأساتذة.
وقارنت أيضا بين معدلات ذكاء الأطفال التي تحصلت عليها مع نتائجهم الدراسية في امتحانات مدارسهم ، ووجدت أنها لا تتوافق إلا قليلا جدا مع نتائجي ، وربما كان عدم الاتفاق مرده كثرة الاختلاف والتباين في النتائج.
وختاما، يمكن القول إنه لم يكن من الممكن لي إثبات صحة وسلامة وصدقية الاختبار الذي قمت بتصميمه وتطبيقه ، وذلك بمقارنته باختبار آخر، أو مع نتائج الامتحانات المدرسية أو مع تقديرات المدرسين لذكاء طلابهم. وليس بالإمكان أيضا إثبات عدم وجود توافق بين نتائج كل تلك المقارنات.
وإن كان من حجة تؤيد صحة وسلامة اختباري ، فهى أنه كان مشابها لاختبار الذكاء المجرب والمستخدم بفعالية وموثوقية في بريطانيا ، غير أن نتائج بحثي هذا ليست بالجودة التي تجعلني أقدمها على طبق لمدير مصلحة المعارف . ولكن مما تعلمته من هذه التجربة ضرورة تصميم اختباري ذكاء مختلفين لطلاب المدارس الأولية و الوسطى ، وذلك لأسباب عديدة ذكرت بعضها آنفا.
في كثير من الاحيان يكون معدل الذكاء وراثي كما اشار الكاتب.
مع مودتي