جنوب الشمال وشمال الجنوب.. الدهر ليس بمعتب من يجزع ..!!

حين سألت ياسر عرمان عن الأمر اكتفى بالقول (هذه صعبة)، والامر هو ان الامام الصادق المهدي حين رأى الحديث المكرر لنائب الامين العام للحركة الشعبية عن جنوب جديد للشمال سيكون كما القديم منازعا ومخالفاً للشمال اضطر الى تذكير من يمثلهم عرمان بأن حال الجنوب ليس بافضل من الشمال فالاختلاف بين شمال الجنوب وجنوب الجنوب وربما وسطه ايضا يرشحه ايضا ليكون منقسما على نفسه، وسواء كان الكلام من باب استخدام قاعدة فيزيائية (لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه) أو غير ذلك، الا انه يشير فعلا الى ما يجب الانتباه اليه، والتوقف عنده، كما نفعل هنا.
وبداية السجال بحسب ما رصدنا نردها الى قول عرمان الموجه الى الذين يدعون في الشمال لفصل الجنوب وان عليهم أن يعلموا أنه في غياب الجنوب الحالي سيظهر جنوب جديد يمتد من النيل الأزرق إلى دارفور، اذ قال عرمان في الرابع من يوليو الجاري لصحيفة الشرق الأوسط (لا فكاك من الجنوب فخلف كل جنوب قديم جنوب جديد)، وعاد واعاد نفس المقال في حوار مع الصحافة في الحادي عشر من ذات الشهر، حيث قال (الجنوب ان ذهب سيأتي جنوب جديد.
وفي حديثه الأخير ظهرت اشارة الى شمال الجنوب الجديد، مما يقرب المسافة بينه والمهدي، اذ قال (الجنوب يحتاج الى مشروع السودان الجديد لبناء دولة جديدة قائمة على الاعتراف بالتعدد في الجنوب نفسه والشمال يحتاج ايضا لبناء دولة قائمة على التعدد والاعتراف به في الشمال نفسه..)
وفي يوم الاربعاء الماضي بمنتدى الصحافة والسياسة الثاني والسبعين تحدث الامام الصادق المهدي عن شمال جديد بعد ان سمع اطروحة عرمان حول الأمر في المنتدى، والراجح انه قرأها في مظانها الأولى، وقال ان الجنوب ايضا سيواجه بشمال جديد، مشددا على انه (اذا كان للشمال جنوبه الجديد فان للجنوب شماله الجديد، ولكل واحد خليفة) داعيا الى التخلص من هؤلاء الخلفاء المزعجين ومن الخلافات ـ جمع خلافة ـ السرطانية، والحقيقة ان للمهدي نظرات في شأن العلاقات الجنوبية الشمالية ودعوات متجددة حول ضرورة التحسب لما قد يأتي به المستقبل إما باقرار خارطة عمل لجلب الجوار الأخوي أو على الأقل تجنب الانفصال العدائي، في حال تعذر الوحدة.
وبالطبع فان الحديث حول جنوب الشمال والحديث المضاد حول شمال الجنوب وطرح القضية من شخصيات ذات وزن، يقود الى طرح السؤال حول حقيقة وجود مهدد حقيقي للدولتين القادمتين من رحم السودان القديم الجغرافي، وبالتالي الى البحث في احتمالات ما قد تتولد عن هذا الوجود من تعقيدات يجدر تصويب النظر اليها.
تقول الخريطة الجغرافية للمناطق مثار الحديث ان بها عشر ولايات، خمس من كل جانب، من الشمال: جنوب دارفور، جنوب كردفان، النيل الابيض، سنار، النيل الازرق، تقابلها اربع ولايات من الجنوب: غرب بحر الغزال، شمال بحر الغزال، الوحدة، اعالى النيل، وادارية ابيى، وتقول الخريطة السكانية انها تضم قبائل مختلفة ومتداخلة على امتداد الخط الممتد من ام دافوق غربا وحتى الكرمك شرقا ويقسمها الكاتب عبدالكريم الامين احمد الى ثلاثة قطاعات، الأول القطاع الغربي الممتد من حدود افريقيا الوسطي وحتي حدود ابيي الحالية مع دارفور وبحر الغزال ويقول عبد الكريم في مقال له بموقع سودانيز اون لاين (في هذه المنطقة يمكن ان تكون منطقتين كمناطق نزاع ومجابدة)، ويحددها في: الأولى حفرة النحاس او منطقة كفيا كنجي (في الحدود ما بين دارفور وبحر الغزال، والثانية الحدود ما بين دارفور في جوانبها الشرقية وبحر الغزال (مراعي الرزيقات) .
الثاني القطاع الاوسط ويقع في بداية الحدود الغربية لابيي الحالية وحتي نهايات الحدود ما بين اعالي النيل وكردفان وتضم المناطق المتاخمة لتماس اعالي النيل مع كردفان..وهي مناطق مرعي وتداخل اثني ورعوي.
والثالث القطاع الشرقي وهي المناطق الحدودية التي ما بين اعالي النيل جنوبا وولايات النيل الابيض والازرق وسنار
ويتوقع كثير من المراقبين ان يشكل هذا الشريط الحدودي الممتد بطول الفي كيلومتر بؤرا للازعاج للدولتين الجديدتين، ويشير صاحب كتاب (السودان.. حرب الموارد والهوية) الدكتور محمد سليمان الى ان اي منطقة فيها ثروة ظاهرة او باطنة متوقعة سيكون حولها صراع، ويقول في حوار سابق معه بصحيفة الايام انه اذا لم يتم التوصل لتوافق حول الحدود لا بديل لاراقة الدماء مرة اخرى، ويقول ان هنالك اثنيات ذات ثقافة عربية لا تشاركها النظرة بل كانت طرفا اصيلا في النزاع المسلح الذي يستهدف تمددها الي عمق هذه المناطق، مشددا على ان من محفزات هذا الصراع هو ان هذه المناطق غنية بالمعادن و البترول والثروات الغابية اضافة الي تمتعها بنظام ايكلوجي حيوي ظل في حالة نمو مستمر. وفي اتجاه ينذر من العواقب الوخيمة يمضي مؤلف كتاب دارفور حقيقة الثورة والإبادة ذوالنون التجاني أحمد ويجزم بأن الإعتماد على علاقات حسن الجوار التأريخية بين القبائل وحلحلة المشاكل المعتادة التي تحدث بينها قد ولى وإندثر إلى غير رجعة، مشيرا في مقال له يتناول حالة قبيلة الرزيقات الى ان الحركة الشعبية أدخلت كثير من المفاهيم والأفكار.
ومع ذلك، ومن ذلك، ربما تكون الحقيقة في ان شمال الجنوب وجنوب الشمال متداخلان بحيث لا يمكن الفصل بينهما، وربما يكون الاحتياط لهذا الواقع بالعمل على تنمية المناطق الحدودية بدلا من تحويلها الى قطبي رحى ومناطق تماس، وبحسب العاملين بالنظر والتدبر فان المقام ليس مقام جزع فالتاريخ لا يحترم الجزعين والدهر ليس بمعتب من يجزع، وهنا نلاحظ ارتفاع الاصوات المنادية باللحاق بما فات، حيث كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول ضرورة تلافي آثار هذا التداخل بين الولايات الحدودية وتوجيهه نحو ما ينفع الناس ويجنبهم المهالك ولعل مؤتمر ولايات التمازج الذي عقد الاسبوع الماضي بمنطقة أويل يقع في هذا الاتجاه اذ كانت أهم مخرجاته إعادة ترسيم الحدود الادارية المشتركة بين ولايات التمازج منعا لحدوث أي احتكاكات بادعاء ملكية الأرض وتعميم تجربة مجالس السلم والمصالحات القبلية في كل هذه الولايات وإتخاذ التدابير التي تجعل من مقررات الصلح القبلية قرارات ملزمة وواجبة النفاذ بقوة القانون، ويتمنى الدكتور سليمان ان لا يحدث صراع حول الحدود، وان تتعامل الاطراف بالحكمة المطلوبة، متمنيا ايضا ان تسود الحكمة في ترسيم الحدود، وينصح في حالة عدم التوصل لتوافق يجب الاتفاق على لجنة دولية يرضى الاطراف بنتائجها.
وبالتالي يصبح الحديث عن شمال جنوب وجنوب شمال ليس بذي نفع، وحسب ما يرى مختصون فان هذا النوع من الحديث عديم الجدوى ويتأسف مركز الدراسات الاستراتيجية الدكتور حيدر ابراهيم علي في حديثه لـ الصحافة عبر الهاتف أمس على هذه اللغة تجعل من الانفصال موضوعا عاديا ويطلق عليها لغة التطبيع مشيرا الى ان كل القوى السياسية وقادتها باتوا يتحدثون عن الانفصال كقضاء وقدر واصبح الحديث مركزا على ترتيبات ما بعد الاستفتاء أو الانفصال، ويصف ابراهيم هذه التصريحات بانها خالية من الارادة الوطنية وتعني ضعف الحس الوطني لدى هذه القيادات ناعيا عليها ان يصبح الوطن في ذهنها مقسما ويصبح تقسيمه أمرا واقعا، مشددا على ان الحديث وكأن الانفصال اصبح حقيقة واقعة هو تزييف للوعي .

تقرير: التقي محمد عثمان:
الصحافة